لقراءة مقالات نعيم خوري عن شربل بعيني انقروا على الغلاف

***
ضيعة الأشباح: محطة مميزة لعملنا المسرحي في هذا المغترب

     مساء التاسع والعشرين من حزيران الماضي يشكّل فصلاً مثيراً من فصول مغتربي، وفرصة سعيدة لو تسامحت في تجاوزها وتفويتها لما عذرت لنفسي، ولندمت طويلاً.
   أسميه مساء مسرحية "ضيعة الأشباح" في مدرسة سيدة لبنان لراهبات العائلة المقدسة المارونيات، تمنيت فيه ان تتوقف عقارب الساعة، أو تبطيء على الأقل، فلا تختصر عمر المعادلة بين عنصر الفكر وعنصر الفكاهة، بين الاهتمام المتواصل والضحك المتواصل، بين الارتخاء في الماضي والانشداد الى المستقبل، فتمر الساعتان الكاملتان وكأنها قفزة واحدة من الباب المفتوح على القلق الى النافذة المشرعة على الشمس، من الجرح المنقع في الملح الى ابتسامة مشرقة على الغد.
   ولقد بدا لي ان "ضيعة الأشباح" هي اسم مبتكر لضيعة خيالية في لبنان، قريبة من قلعة مجدل عنجر، إذ ان ديكور المسرح قد تمّ تصميمه وعرضه في هذا الاتجاه، فكانت الحجارة المشقوعة اشبه بجماجم الضحايا والشهداء، الذين قتلهم جمال باشا السفّاح، واعتابها من ضلوعهم وأعناقهم الممتدة من عتمة الدنيا الى صباح التاريخ.
    والتمثيلية، باختصار، تدور فصولها في ضيعة لبنانية، في زمن الحكم العثماني، عصت على قوة واستبداد جمال وبطشه وتنكيله، فلم يستطع احتلالها او تدجينها، وبالتالي اخضاعها لطغيانه رغم الحملات المتتالية، فلجأ الى الابتزاز، والى خلق عقدة نفسية في أبنائها، وذلك بعملية غزو داخلي يقوم به أشباح غريبو الاطوار والتصرفات، فمن اتلاف وتدمير ممتلكات، الى تهديد وخطف وقتل، فيسود الضيعة جو من القلق والرعب، حتى اذا نجحت الخديعة، يتخلى الناس عن الرفض والمقاومة، ويستسلمون لمشيئة جمال باشا.
   وكي يستتب له ما يريد ويبتغي، اختار لهذه الغاية اقرب الطرق، وهي أن يكون "دود الجبن منه وفيه"، فاستعان بالمرتزقة والانتهازيين والوصوليين، عشاق الوجاهة ولو على حساب الشرف والكرامة، وطالبي النفوذ والسلطة، باطلاً أم حقاً، وباب الرزق المفتوح، حلالاً كان ام حراماً.
   ونجح السفّاح في مخططه، وبدأ ظهور الأشباح في الساحات والزواريب، على المطلات وفي الحقول، في كل موقع وفي كل تجمّع، مما افتعل مناخاً نفسياً معقداً مبلبلاً قادراً من القضاء على كل روح للصمود والمقاومة، وتنقسم الضيعة الى قسمين: الأول يعتبر ظهور الأشباح مصيبة لا يمكن التخلص منها الا بالهرب والتطلع الى الخارج، او في الاستعانة بالآغا، زلمة السلطان، لانقاذ الضيعة من خطر  الابادة.. والثاني يرى في ظهور الاشباح، ظهور جمال الباشا نفسه، بشكل مختلف في جواسيسه وعملائه، لزرع بزور التفرقة والتفتت، واشاعة الرعب والتسبب بالهزيمة، ولذلك وجب الصمود ومقاومة الاشباح بكل الوسائل، وبجميع الامكانات، رجالاً ونساءً واطفالاً.
   وتتزاحم الأحداث، فتختلف وتلتقي، تتشعب وتتشابك بتناسب وتناسق كليين، بين الجد والهزل، الفكر والفكاهة، المقلب والنكتة، الفرح والحزن، اليأس والرجاء، العزيمة والتردد، الحكمة والتروي والنزعة والتهور، من غير أن يطغى عنصر على الآخر بشكل خطابي أو غنائي، ليكوّن هذا الطغيان شعوراً بالملل والتأفف، حتى إذا ما احتاجت اعصاب الجمهور الى شيء من الهدوء والراحة، يرتفع الفن الى المستويين الفكاهي والفكري الى الطرب، فيتألق صوت الطفلة المعجزة ريما الياس بغناء لبنان والصلاة لقيامة لبنان: صلاة مفعمة باللغتين العربية والانكليزية.
   في هذا الجو العاصف، وعلى غليان الجمهور الثائر، يظهر الاشباح من جديد ليخطفوا ويقتلوا، فتتعرف احدى الفتيات على صوت شقيقها مرشد، أحد الأشباح، تتقدم منه، تمزّق قناعه، تصفعه صارخة: اقتلني يا مرشد.. اقتل اختك يا مرشد..
   وفجأة يعود مرشد الى حقيقته، فيركع، ويركع بعده الاشباح الواحد تلو الآخر، وينتصر الصمود بانتصار العز في المقاومة، ويتعالى نشيد: جايي انت جايي.. يا مركب البدايه. 
   مَن تتبّع التمثيلية، لا بد أن طرح على نفسه هذا السؤال: لماذا تختلف "ضيعة الأشباح" عن ضيع لبنان؟
   الجواب بسيط، ذلك لأنها صورة مصغرة عن طبيعة لبنان وأصالته وتاريخه وحضارته. لبنان الغني بالفضائل والقيم والمثل العليا، وليس لبنان الدخيل الغريب عن حقيقته، تضلله وتهدد وجوده الأمراض والعلل والافكار المستوردة، تمسخ شخصيته وتعطّل قراره، وتغتصب إرادته. انها ضيعة يتعانق فيها الصليب والهلال، يتشاركان لقمة العيش والهم والحضور الانساني الكامل، والاستعداد لبناء مستقبل أفضل، لا عصبية دينية، ولا انحلال اخلاقي، ولا تنازل عن الحق مهما كانت قوة الباطل.
   ويستطرد سائل نفسه متسائلاً مرة أخرى: هل ان وجود "ضيعة الأشباح" على حقيقتها اللبنانية الصارخة، هو سبب نجاح التمثيلية؟ أم لأن التمثيلية عينها قد عرضت وتعرضت من خلال "ضيعة الأشباح" الى المرض المزمن الذي ما فتىء ينهش في الجسم اللبناني حتى كاد يقضي على كل لبنان؟ أوَليست المفاتيح اللبنانية هي التي أدخلت الأشباح الى لبنان؟ بل انها هي الاشباح التي سلّمت نفسها للشيطان، فسلمت أعناق اللبنانيين للذبح؟
   أوَليس المسؤولون هم الذين يتطلّعون الى الخارج بدل التطلّع الى الداخل لمعالجة مستجداته، ومداواة ويلاته؟ أوَليست الاوطان الصغيرة نعاج الأرض طعاماً لنسور الفضاء الكاسرة؟ فكيف إذا كانت النعاج ورعاتها قد تحللوا من المقاومة ومن روحيتها وعصبيتها ولهبها الانساني؟ أوَليس أطفال لبنان، الاغنياء والفقراء، المشردون والمهجرون واليتامى، بجراحهم النازفة، وصبرهم الأسطورة، وصمودهم العنيد، هم أمل الوجود اللبناني على الصعيدين الداخلي والخارجي؟
   من البديهي اذن أن نشير الى ان الثلاثمائة طفلة وطفل، من أطفال مدرسة سيدة لبنان، قد أدّوا جميعهم ادوارهم على الوجه الأتم والأمثل، لقد قاموا بهذه الأدوار ولم تمنعهم الآلام العظيمة، والاوجاع القاهرة، والثياب الممزقة والاقدام الحافية المتشققة، لم يتراجعوا بسبب الجوع والعطش والظلمة وخطر الموت، عن مقاومة الأشباح والتصدي للمؤامرة ـ الخديعة التي تهدد مصيرهم ووجودهم.
هؤلاء الأطفال أعادوني ذلك المساء، اربعين سنة الى الوراء، اذ كنا في أواسط الاربعينات في جمعية "ترقية المصالح الوطنية" في بطرام، نقوم في فصل الصيف بتمثيليات، بعضها مترجم، كجزاء الشهامة، وبعضها أصيل كلولا المحامي، وكنا أساتذة مدارس وجامعات وموظفين في مختلف القطاعات، من فرقتنا على سبيل المثال الدكتور ايلي سالم وزير خارجية لبنان الأسبق، والمرحوم الدكتور خليل سالم مدير مالية لبنان، الذي اغتالته الحرب اللعينة، وجليلة سرور مديرة التعليم الثانوي في كلية بيروت.. الخ، وكنا اذا صعدنا المنبر تستولي علينا رهبة الموقف، ورعشة الخجل والخوف، كما كنا نحتاج الى ملقن من وراء الستار يساعدنا على استذكار الدور والنص تلافياً للحرج.
   هؤلاء الأطفال في سيدة لبنان، على سبيل المثال ايضاً، بو يوسف، نعمان وام يوسف، ماغي، حنا وام سامي وغيرهم، لم يخافوا، لم يتعثّروا، لم يتلكأوا، لم يتلعثموا ولم يعوزهم ملقن.
   كانوا عندما تستعصي اللفظة العربية عليهم، وهم من مواليد هذه الأرض، يزينونها بلكنة حلوة مطيبة بلثغة شفافة وبشال ضوئي شبيه بطرحة العروس.
   واذا كنا نحن الكبار نخاف من الفشل، فنحاول أن نعطي الأفضل، فمَن يريد أن يجرد الاطفال من احساسهم ومن كبريائهم؟ مَن يريد أن يتنكر للمواهب التي تختزنها نفوسهم، فينكر عليهم جدّهم ومثابرتهم وجرأتهم؟ ثم مَن يريد أن يغبن نجاح مدرستهم، راهبات وأساتذة، في منح هؤلاء الأطفال الرعاية الصحيحة، وتوفير المناخ اللازم في الحرية للتعبير عن مكنوناتهم ومواهبهم وخصائص نفوسهم؟
   هؤلاء الاطفال اعطوا ادواراً، فأدّوها واحسنوا الاداء، وجعلوا من مساء التاسع والعشرين من حزيران 1990، محطة مميزة لعملنا المسرحي في هذا المغترب القصي.
   أنا لا أخاف على نفسيات هؤلاء الأطفال وخصائصها، خوفي من حرمانها من يد صالحة تمتد إليها، بعد أن تترك المدرسة، وقبل أن يبتلعها المجهول، فتنتشلها من الذوبان والضياع.
   شكراً لراهبات العائلة المقدسة.
   شكراً لمؤلف ومخرج التمثيلية الشاعر شربل بعيني.
   وشكراً لأطفال لبنان في مدرسة سيدة لبنان. وألى مزيد من النجاح، مع أطيب التمنيات.
النهار ـ العدد 660 ـ 19 تموز 1990
**