نبيل طنّوس في لقاءات اذاعية مع شربل بعيني


**
حوار مع الأستاذ كامل المر حول كتابه "مشوار مع شربل بعيني"
    تقوم رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا بنشاطات عديدة ومهمة لدعم مسيرة الأدب المهجري في هذه البلاد، فتقيم الندوات الأدبية حول نتاج شعراء وأدباء المهجر والوطن الأم، وتتوّج أعمالها السنوية بمنح جائزة جبران التي بدأت تأخذ الصفة العالمية، تقديراً لأهم الأعمال الأدبية، التي تساهم بإبراز تراثنا العربي في العالم، ودعماً لمشاريع الرابطة الأدبية ستقوم رابطة إحياء التراث العربي بإحياء حفلة فنية ساهرة يوم السبت الموافق في الرابع والعشرين من الشهر الحالي.
   ولنتعرّف أكثر على مشاريع رابطة احياء التراث العربي في هذه البلاد، يسعدنا أن نستضيف رئيسها الأستاذ كامل المر.
ـ أستاذ كامل أهلا وسهلا..
* أهلا وسهلا بكم..
ـ أولاً.. هل بالامكان أن تعطينا لمحة عن أهم المشاريع التي قامت بها الرابطة منذ تأسيسها لغاية الآن؟
* بدأت فكرة الرابطة مع سنة جبران العالمية، ففي تلك السنة، تنادت بضع شخصيات وجمعيات للإسهام في تكريم جبران خليل جبران، وأقيم تجمع تحت إسم "أصدقاء جبران"، وبدأ العمل لإحياء ذكرى جبران في تلك السنة. واعتبرت سنة 1981 من الأمم المتحدة سنة جبران العالمية.
   بعد هذا النشاط، رأينا أنه يمكن أن يستمر النشاط الأدبي في هذه الديار، فكان أن التقينا معاً، واخترنا اسم "رابطة إحياء التراث العربي"، وبدأت نشاطات الرابطة منذ ذلك الحين، فكان العمل الثاني المميز هو تخصيص جائزة باسم جبران عن أفضل بحث عن نابغة العصر، وبعدها تم بالطبع احياء عدة ندوات وأمسيات أدبية مختلفة، منها أمسية لتكريم الشاعر القروي ـ شاعر الأمة، أمسية للشعر العامي، أمسية لمئوية مارون عبود، أمسية لمخائيل نعيمة، وبالطبع في كل عام تتوج نشاطات الرابطة بتوزيع جائزة جبران لمن يرشحون لهذه الجائزة.
ـ برأيك أستاذ كامل.. ما هي أهم الانجازات التي حققتها الرابطة؟
* أعتقد أن الانجاز الأهم هو أن الرابطة استطاعت أن تحرّك عملية الانتاج الفكري في هذه الديار لأبناء الجالية العربية. في الحقيقة قبل سنة 1981، كانت النتاجات الأدبية قليلة جداً، وربما كان الشاعر شربل بعيني هو أول من وضع انتاجاً باللغة العربية في الديار الأسترالية، لكن بعد أن بدأت الرابطة نشاطاتها رأينا انه قد صدرت عدة كتب.
   ثم ان الندوات التي تقام حول هذه المؤلفات تدفع أيضاً بأصحاب الكفاءات بأن يبادروا الى العمل.
ـ سيد كامل.. لقد صدر لك حديثاً كتاب بعنوان "مشوار مع شربل بعيني"، فهل بالإمكان أن تعطينا لمحة عن هذا الكتاب؟
* في الحقيقة نحن في الرابطة كنا قد أقمنا أمسية لتكريم نتاج الشاعر شربل بعيني، وأنا كان لي شرف المساهمة بمعظم أمسيات رابطة احياء التراث العربي، وفي فترة ما من العام الماضيكنتى أراجع هذه المساهمات فرأيت انه بالإمكان تطوير هذه الدراسة التي وضعتها عن الشاعر شربل بعيني، لتصبح دراسة منهية نوعاً ما، تساعدالمفكر والأديب والشاعر والقارىء، فكان هذا الكتاب الذي قرأت عنوانه "مشوار مع شربل بعيني"، طبعاً مقدمة الكتاب، او الفصل الأول، يحتوي على استشهادات كثيرة لشعراء كثر، ويبين الفرق بين كيف ننظر نحن الى الشاعر الشاعر، أو الى الأديب الأديب، حيث أن الشاعر والأديب يجب أن يتصف أول ما يتصف ببعد النظر، وبفهم قضايا العصر التي تدور حوله.
ـ أستاذ كامل.. لو سألناك بصراحة: ما هو رأيك الشخصي بالشاعر شربل بعيني؟
* رأيي الشخصي، وقد قلت هذا مراراً وعلناً، وأمام جميع الناس، أنا أعتبر الشاعر شربل بعيني من أجرأ شعراء العربية في المهجر والوطن في زمننا الحاضر.
ـ في كتاب "مشوار مع شربل بعيني" هناك قصيدة بعنوان "يا طفل الأرض المحتلة"، فما رأيك في هذه القصيدة؟
* في الحقيقة أنا رافقت ولادة هذه القصيدة، عندما بدأت انتفاضة الأرض المحتلة، وكثيراً ما ألتقي الشاعر بعيني، وكثيراً ما نتبادل الرأي حول كثير من القضايا، فكانت الانتفاضة في الأرض المحتلة، من الأمور التي كنا نتكلّم بها. وفاجأني ذات يوم بمطلع لهذه القصيدة، ثم كنا نتابع القصيدة مقطعاً بمقطع وكلمة بكلمة، وكنت مرتاحاً لها جداً جداً.
ـ وما هو رأيك بمفاجأة الآن، قبل حوالي أسبوع استضفنا الأستاذ شربل بعيني، لتسجيل بعض القصائد، ومن ضمن القصائد التي سجلها بصوته هذه القصيدة فما رأيك لو نستمع إليها الآن بصوت شربل بعيني.
* والله، أنا دائماً أحب أن أسمعها أيضاً.
ـ لنستمع إليها.. 
هذه يا كامل كانت قصيدة "يا طفل الأرض المحتلة"، طبعاً بصوت شربل بعيني، وقد سجّل لنا قصائد عديدة، سنبدأ بإذاعتها عن قريب.
   أستاذ كامل.. أنت تعلم أن للشاعر شربل بعيني قصائد عديدة عديدة.. هل برأيك قدّر في الوطن العربي؟
* لا شك أن الشاعر شربل بعيني، ولا سيما بعد اشتراكه في المربد الشعري في العراق، قد أصبح معروفاً على نطاق العالم العربي كله.
   هناك دراسات عديدة تعد عن شعر الشاعر شربل بعيني، وهذا مما يدعو الى الفخر حقاً، ففي المغترب لدينا كفاءات أدبية نعتز بها ونفتخر.
ـ هل برأيك كرئيس لرابطة احياء التراث العربي، أن النهضة الأدبية العربية في أستراليا، أصبحت بمستوى النهضة الأدبية للمهاجر العربي في أي بلد آخر من العالم.
* في رأيي أن مستوى الحركة الأدبية في المهجر الأسترالي قد قطع شوطاً كبيراً. قد تكون هناك مستويات مماثلة أو قريبة، ربما في أميركا الجنوبية، لكن لا أستطيع، ولا أظن أن حركتنا الأدبية في المهجر الأسترالي بأقل من المستوى الموجود في المغتربات الأخرى.
   من وقت الى آخر، تصدر أقوال عن بعض المتعاطين بشؤون الكتابة هنا، تارة تطالب بالتحجيم، وتارة تطالب بأشياء أخرى، ولكن لست أدري هل يعقلون ما يقولون؟.
ـ أستاذ كامل المر.. شكراً جزيلاً على هذا اللقاء، ونتمنى لك ولرابطة احياء التراث العربي في أستراليا دوام التقدم والنجاح.
إذاعة تو إي آي الحكومية ـ سيدني 1988
**
حوار مع كامل المر وفؤاد نمور
حول "يوم محمد زهير الباشا"
نبيل طنّوس: سيداتي سادتي
   يقيم أهالي مجدليا في الثلاثين من حزيران 1989 مهرجاناً تكريمياً للأستاذ محمد زهير الباشا. وبهذه المناسبة استضفنا الاستاذ كامل المر رئيس رابطة احياء التراث العربي في أستراليا، والمربي الاستاذ فؤاد نمور عضو الرابطة، ليحدثانا عن هذا المهرجان، وعن الأديب محمد زهير الباشا.
   استاذ كامل.. استاذ نمور.. أهلا بكما. 
السؤال الأول للأستاذ فؤاد نمور: لماذا مهرجان محمد زهير الباشا في أستراليا؟
فؤاد نمور: يوم محمد زهير الباشا أو يوم الأدب المهجري هو يوم الأدب العربي ككل إن في المهجر الأسترالي أو في الوطن العربي. كان انتاج الشاعر شربل بعيني مادة دسمة، والشعر كما لا يخفى عليك يا أخ نبيل، هو المحرك الأول للحياة وللسعادة وللفن وللعلم. وهذا ما حدا بالأديب الباحث محمد زهير الباشا لدراسة شربل، فكانت هذه الدراسة الفذة "شربل بعيني ملاح يبحث عن الله". وبما أن الشاعر من أبناء بلدة مجدليا، فقد ارتأى أهالي مجدليا ككل، ومجدليا الاغتراب بنوع خاص، ان صدور هذه الدراسة ما هو إلا تكريم لمجدليا بشخص ابنها البار وشاعرها شربل بعيني، فتنادوا لذلك، بالرد على هذا التكريم بتكريم مماثل، قل انه عرس أدب.
نبيل طنوس: استاذ كامل المر.. هل من الممكن أن تعطينا فكرة عن محمد زهير الباشا؟ من هو محمد زهير الباشا؟
كامل المر: الاديب محمد زهير الباشا، أديب عربي سوري من مواليد حي المزرعة بدمشق، درس الأدب، ودرّسه لطلاب الصفوف الثانوية في مدارس دمشق. ثم عمل محاضراً في جامعاتها في قسم الأدب العربي، وصاحب زاوية أبجدية الأسبوع في جريدة الثقافة السورية.
   هاجر مؤخراً الى الولايات المتحدة الاميركية، وله عدة دراسات أدبية صدرت في عدة كتب، آخرها، وليست الدراسة الأخيرة فيها "شربل بعيني ملاح يبحث عن الله".
نبيل طنوس: أستاذ نمور.. ما رأيكم بدراسة محمد زهير الباشا حول شربل بعيني وملاح يبحث عن الله؟
فؤاد نمور: تحدّثنا من وراء هذا المذياع، وبعيد صدور الدراسة عن هذا الموضوع بالذات، وقلنا يومها ما معناه: ان الأديب محمد زهير الباشا قد وجد في شعر شربل بعيني مادة بحث وافية. وجد قلقاً ورفضاً، وجد ايماناً وشكاً، لقي حباً وصدم تمرداً. وجد في شربل أملاً معجوناً بشتى الألوان الغريبة من المآسي والآلام والنكبات، واكثر من كل هذا وذاك، وجد على ما أعتقد في شربل وشعر شربل صدى لروحه، وصورة لذاته، فانكب على دراسته، وكانت هذه الدراسة "شربل بعيني ملاح يبحث عن الله".
   أما عن الدراسة فما من شك إنها من الناحية الاكاديمية والفنية دراسة موضوعية متكاملة متجردة عن الهوى. ولو اننا أخذنا على الباحث يومها انصبابه على الايجابيات دون التفاتة الى السلبيات، والكتاب في موضوعه وتبويبه واخراجه دراسة لا غبار عليها، وقد تكون الأولى من نوعها في أنها تناولت أدبنا المهجري الاسترالي.
   الدراسة إذن شاملة ان من حيث التقييم او التحديد، ويهمني في هذا المجال أن أشيد بفضل أهل مجدليا الذين سبقوا رابطة احياء التراث العربي في مجال تكريم هذا الأديب الذي يستحق منا كل شكر وتقدير للجهد الكبير والعناء اللذين لقيهما في إعداد هذه الدراسة، وإصدارها، سيما وهو لم يتعرّف على الشاعر شربل بعيني إلا من خلال دواوينه، وسلسلة كتب "شربل بعيني بأقلامهم" التي يصدرها الاستاذ كلارك بعيني من ملبورن.
كامل المر: فليسمح لي الاستاذ نمور ان اضيف: ان زهيراً وهو يعالج شعر شاعر مغترب هو الشاعر شربل بعيني، كان يعالج اغترابه أيضاً، وقبل أن يغترب عن الوطن، لأن الاغتراب قد يكون اغتراباً عن الوطن عانى من اغترابه في الوطن، لذلك رأينا في هذه الدراسة وكأنه هو الآخر ملاّح يبحث عن الله، يبحث عن العدالة، عن الوطن. وفي رأينا أن الاغتراب في الوطن أشد هولاً وأفظع مرارة على النفس من الاغتراب عن الوطن.
نبيل طنّوس: استاذ فؤاد نمور.. ما رأيكم بصراحة بالاستاذ شربل بعيني؟
فؤاد نمور: شربل بعيني وبكل تجرّد، وبغض النظر عن صداقتي له، طاقات أدبية شعرية بارزة، وقد أسهم بإغناء الأدب العربي في مقلب الشمس هذا، كما لم يسهم غيره، فرغم عناء النظم والكتابة زاد عناء النشر ايضاً، في الوقتالذي تقاعس من هم أكثر منه تفرغاً ومالاً.
   شربل بعيني أعطى أدبنا المهجري أكثر من 14 ديواناً شعرياً، ونشر ثلاثة كتب، بالرغم من بعض الغبار الذي يثيره بعضهم، يظل شربل فوف كل المقولات، شاعراً أعطى ويعطي من فيض قلمه، ودم قلبه، ودخل جيبه، وغداً ينجلي الغبار وتبقى الحقيقة.
نبيل طنوس: هذا شيء أكيد.. استاذ كامل المر، كما قلنا في السابق، سيقيم أهالي مجدليا في الثلاثين من حزيران 1990 مهرجاناً تكريمياً للأستاذ محمد زهير الباشا، ولكن من سيشارك في هذا المهرجان، ممكن تعطينا فكرة عن هذا المهرجان؟
كامل المر: سيشترك ويسهم في هذا المهرجان نخبة من الفعاليات الأدبية والفنية والتمثيلية، وسيتخلل المهرجان معارض للرسوم والصحف والكتب التي صدرت في المهجر الأسترالي.
نبيل طنوس: وما هو دور رابطة احياء التراث العربي في هذا المهرجان؟
كامل المر: في الحقيقة، كما ذكر الأستاذ فؤاد نمور، ان اهالي مجدليا قد سبقوا الرابطة في إقامة هذا المهرجان، فحق لهم علينا الشكر، طبعاً، الرابطة مشاركة بأفرادها الذين يشتركون في هذا المهرجان، وستستمون اليهم اليوم في ليلة محمد زهير الباشا، وأعتقد أنهم سيبيّضون الوجه.
نبيل طنّوس: استاذ كامل المر.. رئيس رابطة احياء التراث العربي في أستراليا، ممكن تعطينا فكرة عن مشاريع الرابطة المستقبلية؟
كامل المر: المشاريع التي ستقوم بها الرابطة مستقبلياً.. أولاً، ستعلن رابطة احياء التراث العربي في استراليا اسهاماً منها بإحياء مهرجان محمد زهير الباشا عن مفاجأة سارة تكون هدية الرابطة لأبناء مجدليا، ولكل مهتم بالأدب المهجري.
   كذلك تحضّر الرابطة لأمسية تكريم لشهيد الأدب الاستاذ المرحوم توفيق يوسف عواد في 22 تموز القادم، وسيتبعها ندوة حول بنك المعلومات الذي يعده الاستاذ سليم زبال، كما سنحضر للمهرجان الشعري الذي سيسبق جائزة جبران للعام الحالي.
نبيل طنوس: نتمنى لكم دوام التقدم والنجاح. استاذ فؤاد نمور.. هل من كلمة أخيرة؟
فؤاد نمّور: أولاً، كان يجب أن نبدأ الحديث بشكر الاذاعة على اتاحة هذه الفرصة لنا، وبشكر الاستاذ نبيل بشخصه وبنوع خاص لاسهامه الدائم في مثل هذه الدردشات الاذاعية، ونرجو ان يزيد منها في المستقبل، كذلك أود أن أشكر الاذاعة ككل لاسهامها في احياء التراث العربي بدورها ايضاً.
نبيل طنوس: هذه واجباتنا.. مرة ثانية شكراً لكما.
كامل المر: مع الف شكر وشكر للاستاذ نبيل طنوس وللاذاعة ايضاً.
إذاعة تو إي آي الحكومية ـ حزيران 1990
**
نافذة على الجالية العربية
مع شربل بعيني ومقال عن "المحبة"
نبيل طنّوس: سيداتي سادتي.. أسعد الله صباحكم، وأهلا بكم في برنامج "نافذة على الجالية العربية" لهذا اليوم، ويسعدنا أن نستضيف الاستاذ شربل بعيني، الغني عن التعريف لأبناء الجالية العربية هنا في أستراليا، وموضوع اليوم هو "المحبة".
ـ أستاذ شربل.. ماذا ستقرأ لنا عن المحبة؟
* كتبت هذا المقال لألقيه عبر أثير إذاعة "تو إي آي"، أي أنه لم ينشر، وقد لا ينشر، وإليكم ما كتبت عن المحبة:
   ما من شك أن الله قد خلق الأرض والسماء والماء والهواء، وأغناها بخيراته الكثيرة من أجل رفاهيتنا جميعاً.
   فالشمس، مثلاً، تشرق على الأتقياء والأردياء في آن واحد.
   والشجرة تطعم ثمارها لكل جائع.
   والماء والهواء يضخان الحياة في جسم كل واحد منّا، دون تمييز بين عرق وعرق، حتى أجمعت الأديان السماوية على أن الله "محبة".
   في كتابه "النبي" حدد الفيلسوف اللبناني جبران خليل جبران المحبة بهذه الكلمات:
   ".. المحبة لا تعطي إلا نفسها، ولا تأخذ إلا من نفسها. المحبة لا تملك شيئاً، ولا تريد أن يملكها أحد، لأن المحبة مكتفية بالمحبة.
.. أما أنت إذا أحببت فلا تقل: إن الله في قلبي، بل قل بالأحرى أنا في قلب الله".
   ونحن المغتربين الذين حملنا أطفالنا وأمتعتنا وذكرياتنا وتراثنا وانتقلنا الى وطن جديد، لننصهر في مجتمع جديد، لن تخفف من آلامنا إلا المحبة.
   فالكاتب الذي لا يعمّد كلماته بدموع المحبة، سيجف مداد قلمه، ويداهم اليباس خلاياه الفكرية، ويقعده عاجزاً عن العطاء.
   والفنان الذي تعمي الشهرة عينيه، وتنصب حاجزاً من الأنانية العمياء بينه وبين محبته لزملائه، يهيم في صحراء القحط طوال سنيّ عمره، الى أن تبتلعه رمال النسيان.
   أما الوالدان اللذان ينهمكان في أشغالهما بغية تكديس مال ليس للتكديس، بل لقضاء حاجة ما، وأطفالهما يتضورون جوعاً الى حنانهما ومحبتهما، فلسوف تلعنهما الأبوة والأمومة، ويخشران ما كدّساه وما أنجباه، متى تراكم ثلج السنين على رأسيهما، وأثقلت مشيتهما شيخوخة لا ترحم.
   تصوّروا أن فرداً واحداً يملك المحبة من أفراد عائلة مترامية الأطراف، كثيرة العدد والعدة، يقدر أن ينقذ مجتمعاً من الضياع، وأطفالاً من التشرد، وأن يبعد شبح الرذيلة عن رياض أمهات طاهرات.
   لنأخذ مثلاً هذه القصة الحقيقية التي وقعت بين عروسين، لم يمضِ على زواجهما عدة أشهر فقط، فلقد أرهقت الديون كاهليهما، ومن منا لا ترهقه الديون في هذه الأيام، مما أتلف جهازهما العصبي، وجعله ينهار إثر كل مناقشة وعتاب.. فتركت العروس بيتها الزوجي، وتبلبل الجو وتلبّد، وفتحت ألألسن نيران افتراءاتها، فانهمرت من جراء ذلك قذائف القيل والقال. وكاد الطلاق ينشب أظافره في بدن عائلة يافعة لم تترك لها الظروف المعيشية الخانقة فسحة أمل تتنفّس منها.. لولا محبة والد العروس، فلقد نادى ابنته وسألها:
ـ ألم تتزوجي سالم عن محبة؟
   فأطرقت ولم تجب.
ـ هل أجبرك أحد ما على الارتباط به قسراً.. أجيبيني أرجوك؟
   فأطرقت مرة ثانية ولم تجب..
ـ سلي أمك كم من المرات تخانقنا في بدايو رحلتنا مع الحياة المشتركة. سليها كيف جرّها جدّك من شعرها عندما تركت البيت وأعادها لي.
   فتمتمت العرس قائلة:
ـ ليس بإمكاني أن أتفاهم معه يا أبي.. حياتنا ركض بركض بركض، لدرجة لم أعد أتمكن من زوجي.
   فقال الوالد:
ـ الشقة التي اشتريتماها معاً من سيدفع ثمنها؟ 
ـ أنا وزوجي..
ـ والسيارة الجديدة التي تتباهون بها أمام الجيران.. من سيدد أقساطها؟
ـ أنا وزوجي..
ـ يا بنتي.. ملايين العرسان يقعون بنفس المشاكل، منهم من يفترق، ومنهم من يكمل رحلته مع الزواج.. صدقيني زوجك رجل رائع، أتمنى أن تعودي له.
ـ لا لن أعود..
ـ لقد تركت البيت بساعة غضب.. أي أن زوجك لم يطردك، فإذا كان الغضب قد دمّر بيتك، بإمكانك أن تبنيه بالمحبة. عودي لحبيبك.
   وما أن أطلت العروس عائدة الى بيتها، حتى استقبلها زوجها عند الباب وهو يصيح:
ـ لقد اشتقت إليك كثيراً، وإياك أن تتركيني مرة ثانية، فأنت روحي، وليس بإمكاني أن أعيش بدون روح.
  حادثة أخرى وقعت بين شقيقين مغتربين ارتبطا في مصلحة تجارية واحدة، بغية تحسين وضع عائلتيهما الاجتماعي. وبعد مدة وجيزة من الزمن، بدأت الاتهامات تتراكم والخلافات تدب وتزدهر، وبدأت تجارتهما تتراجع وتندحر بسب الخلاف الناشب بينهما، فما كان من الأخ الأكبر إلا أن فتّش عن عمل يعيله، كي يريح أعصاب أخيه، ويحمي المصلحة من الافلاس، وبدلاً من أن يقدّر الأخ الأصغر هذه التضحية، ثارت ثائرته، وبدأ يسمعه أبشع الكلمات وأحطّها، ويتهمه بالتحضير للانقضاض على المصلحة وشرائها. فلم يأبه الأخ الأكبر لذلك، بل أرسل إليه رسالة عن طريق محاميه، يعلمه فيها بتنازله عن كامل حقوقه، ويدعو له بالتوفيق المستمر.
   عندئذ أدرك الأخ الأصغر مدى محبة أخيه له، فأطلت الدموع من عينيه، لتمسح غشاوة كادت تفرّق بينهما، فأسرع الى بيت أخيه، يسبقه صوت صارخ:
ـ سامحني يا أخي.
   أجل، أيها السيدات والسادة، جميع الشرور والمآسي التي تحل بنا في غربتنا هذه، نقدر أن نتغلب عليها بالمحبة. فجرّبوها.. لا تتأخّروا.
ـ يجرّبون ماذا أستاذ شربل.. المحبة؟
* صدقني أستاذ نبيل، جميع المشاكل التي تواجه الناس لا تحل إلا عن طريق المحبة.
ـ هل بإمكانك كشاعر المهجر الأول، أن تسمعنا قصيدة عن المحبة؟
* بالطبع.. هناك قصيدة كتبتها حديثاً، أود أن أهديها لكل بنت في هذه الجالية:
ـ1ـ
رح ضلّ حبّك للأبد رح ضلّ
تا يخلص من الزيت قنديلي
وما تعود إيدي تطال زهرة فل
ولا تعشق النايات ترتيلي
ـ2ـ
كنتي اللقا.. لما الشراع يميل
صرتي السفر وبحورك الغربه
وصارت شفافك تنزف مواويل
وتتجمّع مواويلها بقلبي
ـ3ـ
يا ريت فيي إسرقك يا ريت
وغمّض عيوني ع السعاده ونام
لكن يا ريت الما بتبني بيت
كيف بدّها تحقّق الأحلام
ـ ممتاز.. ممتاز.. كنا سيداتي سادتي مع الشاعر الاستاذ شربل بعيني.
إذاعة تو إي آي الحكومية الأسترالية
**
لقاء أدبي مع الشاعر شربل بعيني
نبيل طنوس:
يَحْسُبونَ أنَّني أُفتِّشُ عَنْ إسْمِيَ المَخْطوطِ قُرْبَ الصُّورَةِ..
وَعَنْ دِيكُورٍ رائِعٍ،
وَعَنْ مَديحٍ عابِرٍ يُخْمِدُ نَارَ الشَّهْوَةِ..
يَعْتَقِدونَ أَنَّنِي أُمارِسُ التَّدْجيلَ
كَيْ أَحْظَى بِعَطْفِ النُّخْبَةِ..
وَكَيْ أَصِيرَ الشَّاعِرَ الْمُخْتالَ ذاتَ اليَمْنَةِ واليَسْرَةِ..
أَنا ما كَتَبْتُ الشِّعْرَ مِنْ أَجْلِ التَّشاوُفِ وَامْتِلاكِ السَّطْوَةِ..
أَنا ما كَتَبْتُ الشِّعْرَ
مِنْ أَجْلِ الْخُلُودِ الزَّائِفِ وَالشُّهْرَةِ..
فَلَقَدْ كَتَبْتُ ما كَتَبْتُ وَحَسبِيَ
أَنِّي بَصَمْتُ بَصْمَتَيْنِ في سِجِلِّ أُمِّتِي.
سيداتي ، سادتي، هذه بعض الأبيات الشعرية للأديب والشاعر في بلاد المهجر الأستاذ شربل بعيني، الذي نستضيفه في سهرة الليلة. أستاذ شربل.. هل من الممكن أن نعطي المستمعين فكرة: من هو شربل بعيني؟
* شربل بعيني مواطن لبناني سافر الى أستراليا، بسبب محاربة الكلمة في لبنان أوائل السبعينيات..
ـ مع أن حرية الكلمة كانت موجودة في لبنان يومذاك
* ليست لكل الناس.. فلقد تمت محاربتي من قبل الأجهزة الخاصة، لأنهم لم يريدوا لهذا الشاب أن ينطلق بطريقة لا تعجبهم، ولهذا، وبعد أمسية شعرية ألقيتها في مدينة طرابلس، حاولوا تهديدي، وإسكات صوتي، وبالطبع، فلقد تركت بلادي لأنني أعرف أن الكلمة عند الشاعر لا يمكن لأحد أن يسكتها.
ـ الحقيقة.. هذا الكلام يثير الدهشة والاستغراب، مع العلم أن لبنان كان دائماً بلد الكلمة الحرة، والمركز الذي انطلق منه العديد من الأدباء والشعراء. هل ظلم شربل بعيني كشاعر في بلد كان مشعلاً للحرية آنذاك؟
* الظلم يأتي دائماً من الزعامات التي تقضي على طموح شعبنا المغلوب على أمره. 
   عندما أصدرت كتابي الثاني "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة 1970" كنت الوحيد بين الأدباء الشباب الذي دق ناقوس خطر حرب وقعت بعد ست سنوات من صدور الكتاب، فلقد حاولت جاهداً أن أنبّه المسؤولين الى خطورة الوضع، وإلى أن الحرب الأهلية على الأبواب، والظاهر أن كلامي لم يعجبهم:
.. وكالمطر
يتساقط الخطر
في بلاد ضائعه
عارية وجائعه
وكل من فيها كفر
أو هجر
   وهذا بالطبع يبيّن لكل صاحب بصيرة وأذن تسمع أن بلاده ستخرب:
الخراب يزحف نحو المدينه
يخترق جدار الصمت والسكينه
والطيور الشارده
في الليالي البارده
ترتل التراتيل الحزينه
   نحن الطيور الشاردة، ولقد شردنا في كل أصقاع الأرض يا أستاذ نبيل.. بعد أن زحف الخراب نحو المدينة. لبنان كله من شماله الى جنوبه خربان. فالمدينة هنا تعني الوطن المسكون بالانسان الذي يموت يومياً.
ـ كلنا في الهوا سوا. أستاذ شربل بعيني، كما ذكرت لقد هاجرت الى أستراليا لظروف ما، عندما وصلت كيف كانت البداية؟
* شربل بعيني انسان لم يمارس سوى التعليم والصحافة كمهنة في لبنان، فلقد كتبت لعدة سنوات بمجلة الدبور اللبنانية، وعندما أتيت الى أستراليا اصطدمت بواقع أليم هو أن المثقف والمتعلم يعملان في الفبارك من أجل لقمة العيش، وحتى لا أكون عالة على أحد، ابتدأت بالعمل المضني، وإيمان التخلص من هذه المرحلة يغمر كياني، وبعد عدة سنوات طلبتني الأختان كونستانس باشا ومادلين بو رجيلي للتعليم في مدرسة سيدة لبنان، التي تعتبر أكبر صرح تعليمي للجاليات العربية في أستراليا.
ـ ماذا تعلّم؟
* اللغة العربية، وأعمل على إعداد الكتب المدرسية، كما أشرف على تربية اطفالنا الصغار، فنوجههم التوجيه الصحيح، بعد أن أعمت الحرية عقول بعض الناس، وأصبح الأهل يحبون أبناءهم "ع الغميضة"، وهم يعتقدون ان المحبة تربية. لا فالمحبة ليست تربية، لأن التربية تنبع من العقل وليس من القلب:
بتحب إبنك؟ حقّك تحبّو
ودم قلبك تسكبو بقلبو
بس خلي العقل قبل الحب
يزرع بذور التربيه بدربو
   من العقل يجب أن نربي أولادنا.
ـ لكل شاعر لونه الخاص، وللشعر ألوان عديدة. أي من ألوان الشعر يُعرف به ويرتاح إليه الشاعر شربل بعيني؟
* ما من موضوع إلا وجرّبت أن أطرق أبوابه، إن كان بالشعر العامي أو بالشعر الفصيح. فلقد كتبت عن كل ما أحسست به، وتفاعلت معه، فالشعر يتسلل كالسارق الى خدر الشاعر، عكس ما ادعاه الدكتور طه حسين، من أن الشاعر يحضّر كلمات القافية ومن ثم يبدأ بالنظم.
   وأنا، كشاعر أقول: ان القصيدة عندما تنتهي يقف الشاعر مشدوهاً أمامها، ومستغرباً في كثير من الأحيان فكرتها، أو طريقة بنيانها، وهذا ما حدث ويحدث معي ومع غيري من الشعراء الشعراء.
ـ طيب.. ما هي أحب المواضيع التي عالجتها من خلال قصائدك؟
* أحب الأشعار الى قلبي تلك التي تستنطق الغربة، لتحكي لنا حكايا المغتربين الذين مروا أمامنا وماتوا، بينما نحن نكمل مسيرة الغربة، وكأننا ظلال انسلخت عن أبدانها بعد الرحيل الأخير:
ـ1ـ
كَتْبُونِي عَ شْفَاف وْلادُنْ
قَصِيدِه لِبْلادُن
الْمَزْرُوعَه بالنَّارْ
بِالْحُزْن وْبِالدَّمَارْ
وْعَ فَرْشِةِ النِّهَايِه.. قَالُولِي:
يَا غُرْبِةِ الأَيَّام الطَّوِيلِه
حْكِيلُنْ عَ اللِّي صَارْ
مَعْ دَمْعَات الْعِينَيْنْ الْخَجُولِه
اللِّي تْجَمَّدِتْ عَ خْدُود الطُّفُولِه
وْمَا غَسَّلِتْ آثَار بْعَادُنْ!
ـ2ـ
.. وْقَالُولِي: تَعَبْنَا تِعِبْ
وِالْعُمْر ابْتَلَى
وْمِنْ عَرَقِ صْلاوَاتْنَا شِرِبْ
كْتَاب الصَّلا
وِبْيُوتْنَا اللِّي فِيهَا تْرِبَّيْنَا
وْعِمَّرْنَا مْدَامِيكَا بْإِيدَيْنَا
وِغْزَلْنَا سَاحَاتَا بْإِجْرَيْنَا
نَكْرِتْنَا!
وِالأُم اللِّي بِكْيِت علَيْنَا
وْخِبَّيْنَا صُوَرْهَا بْعِينَيْنَا
قَبْل الشَّمِسْ مَا تْغِيبْ
وِدَّيْنَالاَ مْكَاتِيبْ
لاَ فَتْحِتُنْ
لاَ قِرْيِتُنْ
وْبِالْمَوْقَدِه الْـ قِدَّامْ بَابَا حَرْقِتُنْ
مْأَكَّدْ عَ طُول غْيَابْنَا نِسْيِتْنَا
وْمَاتِتْ بِقَلْبَا الطَّاهِر مْحَبِّتْنَا!
ـ3ـ
يَا غُرْبِة الأيَّامْ الطَّوِيلِه
يَا غُرْبِة الشَّقَا وِالضَّنَى
قَبِلْ مَا تِحْكِيلُنْ حْكِيلِي
شُو اللِّي مِتْخَبَّالِي أَنَا؟!
   وألله يعلم يا أستاذ نبيل ماذا يخبىء لي القدر في هذه لغربة.
ـ الحقيقة.. لا أحد يعرف. أنت كشاعر لبناني هاجر الى هذه البلاد منذ فترة، ما هو تأثير الأحداث في لبنان عليك شخصياً؟
* تأثيرها؟!.. إنها تجبرك على النوم باكياً، لأن الشاعر ينفعل أكثر من غيره مع أحداث وطنه، ويثور كلما قرأ خبراً محزناً، وخاصة عندما تقتل الأطفال وتشرد. ولهذا كتبت قصيدة الصوت العالي. هل تحب أن تسمعها؟
ـ لماذا لا.. تفضل.
* شكراً..
ـ1ـ
عَالِي صَوْتِي عَالِي
يَا وَطَنِي الْجَرِيحْ
عَمْ يِهْدُرْ بِاللَّيَالِي
اللِّي مْجَرَّحَه تِجْرِيحْ
وِيْخَرْطِشْ إِسْمَكْ صُورَه
عَ إِيدَيْنِ الْمَعْمُورَه
وِيْلَوِّنْ فِيك الرِّيحْ
ـ2ـ
عَمْ جَرِّبْ حَوِّشْ نِجْمِه
يَا وَطَنِي لُبْنَانْ
تَا بْنُورَا شِقّ الْعَتْمِه
الْمَزْرُوعَه وَيْنْ مَا كَانْ
وْخَلِّي النَّاس تْشُوفْ
اللِّي مْخَبَّى عَ الْمَكْشُوفْ
وْوَعِّي فِيك الإِنْسَانْ
ـ3ـ
سْنِينَكْ اللِّي عِشْتَا
مَا بِعْتِبِرْهَا سْنِينْ
شِفْتَا أَنَا شِفْتَا
عَمْ تِحْنِيلَك جْبِينْ
وِتْقِلَّكْ: إِنْتَ الْبَاقِي
بِالصَّخْر وْبِالسَّوَاقِي
وْبِقْلُوب الْمنْسِيِّينْ
ـ4ـ
إِنْتَ الْحُلْم الأَكْبَرْ
وِالْغَلِّه الْـ مُشْ مَحْصُودِه
يَا نَبْع الْـ عَمْ تِتْفَجَّرْ
مِنْ عِينَيِّي عَ خْدُودِي
لَوْ يِنْطِفِي الزَّمَانْ
وْمَا يِرْجَعْ اللِّي كَانْ
رَحْ إِبْقَى الصَّوْت الْعَالِي
وِمْجَال الْكَوْن مْجَالِي
وِحْدُودَك حْدُودِي!..
ـ أستاذ شربل بعيني.. من المعروف ان الشاعر حساس أكثر من غيره.  كشاعر عاش سنين عديدة بعيداً عن بلاده، ما هو أكثر شيء أثر في حياتك في الغربة؟
* مهما حاولنا أن نراوغ بعضنا البعض نجد أن الكثير من العائلات الشرقية مفككة ألأوصال في هذه البلاد، أي أن الترابط العائلي مفقود كلياً، وهذا يعني ان الانسان يبتعد، لدى وصوله الى الغربة، عن أصالته الشرقية، فيضع كنعامة رأسه في الرمل، كي يخفي جسده، ويتقوقع على نفسه، ضارباً عرض الحائط بالروابط العائلية التي تشده الى أناس آخرين هم أهله وأحباؤه.
   كل هذا ترك أثراً عظيماً في نفسي، فعملت، وأعمل المستحيل على تنشئة أجيال وفق يقتضيه المجتمع الشرقي من واجبات اجتماعية وما شابه. 
   الظاهر أن الدولار أعمى عيون البعض، فضاعوا عن الطريق القويم، وأضاعوا أطفالهم معهم.
ـ بما أننا نتحدّث عن الغربة، ومشاكل الغربة، ونحن نعلم بأنك كشاعر مهجري لك العديد من الأشعار عن الغربة. هل لك أن تسمعنا بعض الأبيات؟
* سأسمعك المقطع الأول من قصيدة طويلة بعنوان "وريقات من دفتر الغربة":
غُرْبَتي..
صارَتْ كَطَعمِ الْمَوْتِ صَعْبَه
أَوْجَعَتْها زَفْرَةُ الرّيحِ،
وَأنَّاتُ اليَنابيعِ،
وَآهاتُ الْحَصى والرَّمْلِ والتُّرْبَه
وَدُموعُ ذلكَ الطِّفْلِ
الَّذي أَضاعَ بِالزَّحْمَةِ رَبَّهْ
فاسْتَغاثَ كالشُّعاعِ التَّائِهِ
الْمَطْرودِ مِنْ شَمْسِ المَحَبَّهْ..
أينَ أَهْلُ الْخَيْرِ يا أمَّاهُ ـ قولي ـ
أَيْنَ جيراني الأَحِبَّهْ؟!
أيْنَ يسوعي الصَّغيرُ..؟!
فَإنَّنِي قَدْ ذُقْتُ صَلْبَهْ..
أَيْنَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ..؟!
أَيْنَ الْحُسَيْنُ وَالْحَسَنْ؟!
أَيْنَ الصَّحابَهْ..؟!
قَدْ هَجَرْتُ الدَّارَ مِثْلَكَ يا رَسولي
وَلَمْ أجِدْ تِلْكَ الْمَدينَهْ..
غَيَّروها..
غَيَّروا الأَسْماءَ في أَرضي الْحَزينَهْ
فَأُزيلَتْ "يَثْرِبُ"..
لِتَحُلَّ في الأَرْجاءِ "غُرْبَهْ"
كُلُّ الْمَدائِنِ في بِلادي
تَوَحَّدَتْ بِحُروفِ "غُرْبَهْ"
.. وَأَنينِ "غُرْبَهْ".
ـ وأنين غربة!.. أستاذ شربل بعيني/ كيف بالامكان وصف الأدب المهجري في الغربة، أي في هذه البلاد؟
* وجود مثقفين واعين في هذه البلاد، يجعل القارىء العادي مشدوداً الى أدبه المهجري، فالمرحلة الحالية التي نعطي بها، ما هي إلا درب معبّدة للمدى البعيد.. للتاريخ.
   وجود روابط أدبية تهتم بنتاج الشعراء، وتقيّمه، وتساعدهم على إبرازه، كرابطة إحياء التراث العربي مثلاً. ووجود صحافة مهجرية ترحب بكل إصدار أدبي وتشجعه. كل هذا يدفعني الى القول: ان أدبنا المهجري يسير في الطريق الصحيح، ولا خوف عليه ابداً.
ـ ما هي الصعوبات التي تواجه الكاتب أو الشاعر في هذه البلاد؟
* نشر كتبه، وأين وكيف؟.. عندما أصدرت "مجانين 1976" كانت هناك صعوبة تدفعك الى اليأس وإيقاف الإصدار..
ـ لماذا؟
* لأن الكلفة هائلة، وفي نفس الوقت تتعامل مع أناس لا يفهموس بطباعة الحرف العربي، لذلك كنا نلجأ الى "الدكتيلو"، وهات يظهر الحرف بالطباعة وهات ما يظهر، لذلك أتت الطبعة ألأولى من "مجانين" رديئة جداً.
ـ ما هي المواضيع التي تناولها كتاب "مجانين" هذا؟
* حاولت "بمجانين" أن أحارب الطائفية، لأنه صدر في أوائل الحرب الأهلية اللبنانية، وأثيرت ضجة كبرى على ان الحرب في لبنان حرب طائفية.
   وبعد مرور 11 سنة على الحرب، ما زلت انادي بأن الحرب ليست طائفية، ولا يمكن أن تكون طائفية، فلو كانت كذلك، لا سمح الله، لتركت آثاراً سلبية على حياتنا الوحدوية في هذه البلاد:
بؤمن بأله وعيب أكّد هالإيمان
بؤمن بعيسى وبالرسول كْمان
بؤمن بإنجيلي وبالقرآن
بؤمن بوحدة شعب
عاش برضى وبحب
ع أرض لبنان
   وهذا ايمان كل مواطن صالح، آمن بلبنان وبوحدة شعبه، وابتعد بعلومه وثقافاته عن المستوى الطائفي الذي يتكلمون عنه.
ـ كل فنان أو شاعر يعتز بتحفة فنيّة، بماذا يعتز شربل بعيني؟
* بكل ما كتبت..
ـ والقصيدة التي أمامك ما هي؟
* كيف أينعت السنابل؟
ـ هل لك أن تسمعنا بعض المقاطع منها؟
* قبل أن أقرأ المقطع الأول من القصيدة أحب أن أشكرك أستاذ نبيل طنوس على استضافتك لي في هذا البرنامج:
لا تَسَلْنِي يا حَبيبـي،
كَيفَ أَيْنَعَتِ السَّنابِلْ؟!
رَغْمَ رَحيلِ الشَّمسِ عَنْ أَرْضي،
وَأنَّاتِ البَلابِلْ..
رَغْمَ الْحَرائقِ والتَّشرُّدِ،
رَغْمَ صَيْحاتِ الأَرامِلْ..
فَبِلادي، يا حبيبـي ، لَمْ تَعُدْ رَفَّ حَمامٍ
يَنْقُرُ الضَّوءَ تِباعاً
كَي يَصيرَ الضَّوْءُ سائِلْ..
يَسْقي الْحُقولَ وَالتِّلالَ الخُضْرَ،
يَجْري في شَرايينِ الْجَداوِلْ..
فَبِلادي، يا حَبيبـي،
أسرَتْها زُمرَةٌ
لا فَرْقَ عِنْدَها بَيْنَ مَقْتُولٍ وَقَاتِلْ
سَرَقَتْها..
سَرَقَتْ خاتَمَ إِصْبَعِها وَصَبَّتْهُ سَلاسِلْ
وَدَعَتْ أَطْفالَها السُّمْرَ
إلى التَّحْقيقِ في كُلِّ الْوَسَائِلْ..
عَذَّبَتْهُمْ..
عَلَّقَتْهُمْ فَوْقَ أَعْوَادِ الْمَشَانِقِ
خَوْفُها..
أن تَسْتَحيلَ الأَيْدي أقْلاماً وَبارودَ قَنابِلْ..
خَوْفُها..
أَنَّ الرَّضيعَ في بِلادي يَعْرِفُ كَيْفَ يُقاتِلْ!
إذاعة تو إي آي الحكومية ـ سيدني 1986
**
سهرة مع شربل بعيني
نبيل طنّوس: سيداتي وسادتي.. أسعد الله مساءكم وأهلا بكم.
   من إذاعة "تو إي آي" في سيدني نحييكم، ويسعدنا أن نلتقي معكم ثانية لهذا اليوم، لنقدم لكم برنامج سهرة الجمعة.
   أمامي بعض الكتب للشاعر شربل بعيني، وفي صفحات أحد الكتب يقول:
قررت أن أحارب القبور والأكفان
ةأطعن الموت الذي يجترنا في رحلة الأزمان
قررت أن أجرّد الزعيم من ألقابه
وأرفع الإنسان
   طبعاً، هناك أشعار عديدة للشاعر شربل بعيني، وفي برنامج سهرة الليلة، يسعدنا أن نستضيفه، فأهلا وسهلا.
* أهلا بك أيضاً..
ـ كم كتاب صدر لشربل في أستراليا.. فقط في أستراليا؟
* تقريباً حوالي 15 كتاباً، وفي نفس الوقت صدرت 7 دراسات حول شعري.
ـ أشعارك التي تكتبها عن ماذا تتكلّم؟ عن الحب.. عن الوطن.. أو عن ماذا؟
* ما من شاعر يتناول موضوعاً واحداً في شعره، لأنه يمر بظروف مختلفة، وكل ظرف يفرض عليه قصيدة مختلفة. مثلاً، ما من إنفعال يشعر به الشاعر إلا ويسكبه قصيدة على الورق، كي يعرض فكرته للقارىء.
   مواضيع كثيرة تناولتها في أشعاري، لدرجة أن شاعرنا الكبير نعيم خوري قال: "شربل بعيني أيقونة أدب". وعندما احتج عليه البعض، قال: "شربل بعيني كتب في كافة المواضيع، ولهذا أسميته "أيقونة أدب". وهذه شهادة من الأستاذ نعيم خوري أعتز بها ما حييت.
ـ أستاذ شربل.. من عشرين سنة جئت الى أستراليا، واليوم، كما ترى، تغيرت أستراليا، فكيف تقيّم الجالية العربية اليوم بالنسبة لجالية السبعينيات من هذا القرن؟
* من عشرين سنة، كنا إذا أردنا أن نستمع الى أغنية عربية علينا أن نذهب الى منطقة "ردفرن، هناك يوجد محل لبيع أشرطة عبدالوهاب وأم كلثوم وفيروز وغيرهم الغنائية، وكنا نشعر بفخر عظيم كوننا نستمع الى تراثنا الفني في الغربة.
   اليوم، تغيّر كل شيء، ففي الشارع الواحد تسكن عشرين عائلة عربية، أي أصبح هناك نوع من المشاركة الاجتماعية، وأصبحنا نملك الصحف والاذاعات العربية ودور العبادة والمدارس والمحلات التجارية على اختلاف انواعها، وغيرها الكثير الكثير.
ـ وبالنسبة للغة العربية؟
* اللغة العربية أصبحت لغة إلزامية في المدارس، بعدما أعلنت الحكومة أن المجتمع الأسترالي مجتمع متعدد الثقافات، لذلك أصبح بإمكانك أن تعلّم اطفالك اللغة العربية في أي مدرسة تختار.
   كنا في السابق نخجل أن نتكلّم باللغة العربية، كي لا نتعرّض للكلام البذيء من شخص ما، أما اليوم فأصبحنا نفتخر بها، وصارت الأذن الغربية معتادة عليها.
   تصور أن رقصة الدبكة الفلكلورية، أصبحت رقصة شعبية يرقصها الشعب الأسترالي، لا بل يمسك على الرأس.
ـ أمامك بعض الكتب لشربل بعيني، وأشرطة غنائية لريما الياس، ما رأيك لو أتركك لوحدك في سهرة الجمعة، وأذهب أنا لارتشاف فنجان من القهوة؟.. 
* هذه مزحة.. أليس كذلك؟
ـ أنت قدّم سهرة الليلة؟
* هذا المغطس الذي رميتني به لن أسامحك عليه استاذ نبيل..
ـ الميكرفون لك.. وسأعود قبل نهاية البرنامج.
إذاعة تو إي آي الحكومية ـ سيدني 1991
**