حدس الشاعر، إذا كان نقاداً مصلحاً اجتماعيّاً،
وحسّه الشعري المرهف الذي لا يغيب عنه خلل إلاّ ويشخّصه بغية إصلاحه، ولا يغيب عنه جمال إلاّ ويتغنّى به بغية إعطائه مثلاّ للبناء،
ورؤياه الصائبة والمخوفة في آن،
كل ذلك سيف على رؤوس الدجّالين ومروّجي الغشّ والتزييف من أيّ صوب أتوا وإلى أيّة فئة انتموا.
فالإصلاح شامل، كأنه رادار يمسك دون تعب بالموجود، فيشرّحه بعمليّة جراحيّة مؤلمة للموت أو للخلاص.
الشاعر المصلح الاجتماعي يشعر في ذاتيته بزخم وكأنه أمواج بحر عتيّة لا ترحم ولا تحابي.
صدق الشاعر هذا مع نفسه هو صدقه إيّاه مع الآخرين. لا يهاب ملامة، ولا يخاف من بشر. مسؤوليّته كبيرة.. يشرّفها بأن يقول ما عليه أن يقوله: يؤنّب، يوبّخ كالنبي. رسالته الاجتماعيّة لا يرفضها، هي فخره.. ومرّات يشجّع فيصبح شعره مرآة مجتمع فيه الغثّ والثـمين، وما أجمل أن يكون الثـمين في مَن يسيرون نحو هدف حياة اختاروها، وما أبشع الغثّ عند أناس لا يشرّفون دعوتهم في الحياة.
ولكل هدف، فمنهم من يعملون في سبيله، ومنهم من يتنكرون له فيصبحون عالة على مجتمع يهدمونه وهم مسؤولون، ولا يبقى فيهم عنصر للبناء.
هذا الشاعر الاصلاحي الذي وصفناه هو شربل بعيني، الذي يتحفنا اليوم بديوان جديد "أللـه ونقطة زيت".
العنوان يتركنا حيارى.. نتصفّح الديوان فنرى أن الشاعر مجروح متألّـم لعدم الصدق عند من لهم أن يكونوا صادقين، عند من عليهم أن يسيروا بالدين لتنقية الأجواء لا لإفسادها، لبناء مداميك الصرح الاجتماعي لا لدكّه. وإلاّ فما عليهم إلاّ أن يعبّروا عن كذبهم وغشّهم فيكونوا من الصادقين.
وهذه الفريسيّة التي تستخدم الدين لمآرب شخصيّة ليس إلاّ، والتي تستخدم البسطاء كمطيّة لصالح خاص مقيت تروج في المجتمع، إذ حيث يقلّ الإيمان تنمو الخرافات، وتتوسّع رقعة التدجيل. وما اسود الضمير يوماً إلآّ عند من هم في مركز المسؤوليّة على كلّ الأصعدة في سبيل نفع مادي يسدل ستاراً كثيفاً من الكبرياء والتعنّت والأنانيّة والجهل الّذي هو أصل مصائب الإنسان.
أخذ المسيح السوط لا لأمر، إلاّ ليطهر الهيكل الذي هو مركز العبادة والاتحاد باللـه، وليعلّم الأجيال الطالعة أن السوط يجب أن يظلّ حاضراً في ضمير يعي المسؤوليّة ولا يبخّرها، في ضمير واعٍ يقظ لكي لا تتكدّس فيه وعليه طبقات السفالة والانحدار نحو الأرض، والانزلاق المشبوه إلى أسفل. مغبّات كل ذلك تشويش ضمائر الآخرين، والتساؤل عن الطريق الصحيح وعن الحقّ، وقد قال السيّد في الكتاب: "تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم، والويل لمن تأتي الشكوك على يده".
أن ينحرف الانسان عن هدف أخطّه لنفسه فهذه حرّيته، ولكن لا يعلم أن هذا الإنحراف، الذي به يتبجّح هو دينونته، اللّهم إذا كان بعد يؤمن بدينونة، ولـم يكن قد خسر إيمانه الحقيقي عمليّاً ـ
في أيّ دين كان ـ لكي تحت ستار الدين، وشعائر الدين، وتقاليد الدين الموروثة، والتي بها يتعلّق الإنسان بما تدلّ عليه، لا بما هي زيت أو ماء قد صلّيَ عليها، أو شموع تضاء، فليست هي
الجوهر، وليست هي المطلق، إنّما توجّه إلى علٍ، نحو المطلق، وهي سبيل من السبل إليه. ولكن الدجّالين يستعملون كل هذه الشعائر والوسائل يضعونها مقام اللـه، يحرّفون معناها خدعة البسطاء فتجمع الأموال الحرام، وتفسد الضمائر التي هي للّـه، ويضلّ الطريق إلى ربّه من تعلّق بالظواهر والعرض، ولـم يخترق كل ذلك لينال اللبّ والجوهر.
في عالـم اليوم، وقد قلّ الإيمان، وكثرت الأضاليل، حيث يعتقد مَن له شرف الحياة المثلى أنّه باستخدام الشّارات الخارجيّة التي أفرغت من لبّها وجوهرها، يستطيع أن يربح مال العالـم ـ ربّما يربحه بكذب ونفاق ـ ألا تعود إلى ضميره كلمات السيّد في الكتاب: "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالـم كلّه وخسر نفسه؟". صمّ الأذن، أغلق القلب، ووجّه العقل صوب تفاهة الحياة. وما أكثرهم أولئك الذين ـ إلى أي دين انتموا ـ أغلقت عليهم أبواب الفهم، وتعالى الجهل ليصبح إلهَهُم. ومن الجهل إلى أن نقول: عميان يقودون عمياناً.. إلأى أين؟ إلى الهوّة التي فيها يفخرون بأنّهم يجهلون فوق جهل الجاهلين. مسؤوليتهم نسوها وهي تدينهم.
ـ2ـ
القصائد الأربع والعشرون التي يضمّها ديوان "أللـه ونقطة زيت"، تتميّز بالعفويّة والأصالة التي هي من مناقب الشاعر الحقيقي. لا ينحت من صخر بل يغرف من بحر آلهة الشعر، وتأتي القصائد كلّها وكأنها صيغت في وقت واحد. أمواج دفّاقة تتشابه بكل ما فيها من تيّارات جعلت لهذا الديوان وحدته وتضامن أفكاره وسعة آفاقه. نطالع هذه القصائد على اختلاف مواضيعها، ونشعر بأن نسمة واحدة تهيمن عليها، نسمة الإيمان، نسمة الصدق، نسمة الموضوعيّة، وأيضاً وأخيراً، نسمة القرف أمام خزعبلات من له أن يعيش صادقاً مع نفسه ومع الآخرين.
نسمة الإيمان ليست ردّة فعل عند الشاعر ضدّ مَن لهم وعليهم أن يبرهنوا عن إيمانهم، بل التعبير الصّافي عمّا يختلج به قلبه، وهو ينظر إلى الأمور والأحداث والخليقة كلّها، فيرى فيها يد الخالق. وهو القائل:
كل شِي خْلِقْتُو بْيِحْكِي عَنَّكْ
عَنْ حُبَّكْ.. عَنْ ضِحْكِةْ سِنَّكْ
عَمْ هَـ الإِيدَيْن الْمَفْتُوحَه
عَنْ هَـ الْخَيْر الْفَايِضْ عَنَّكْ
إنْت الشَّجْرَه الْـ فَوْق التَّلِّه
إنْت الْقَمْحَه بْوَكْر النَّمْلِه
يَا خَالِقْ.. وِبْتِخْلَقْ هَلَّقْ
بْرَعْشِةْ قَلْبْ.. بْزَهْرِةْ زَنْبَقْ
مِنْ دُونْ عْجَايِبْ.. مِنْصَلِّي
وكأنّي بالشاعر، وهو يقول هذا، يعيد إلى الذاكرة ما قاله أغسطينوس الكبير: "ليست القيامة الأعجوبة التي تبهرني، إنّما هي العشبة التي تدوم فيها الحيويّة فتنمو".
وكأني أيضاً أسمع القدّيس يوحنّا الصليبي إذ يقول: "كل شيء هو لي، السماء لي، والعشب لي، والشمس لي، واللـه لي.. إلخ" فيها، في الطبيعة كلّها، وفي الخليقة يرى يد اللـه الخالق، الذي، بكرم لا يوصف، أبدع الكون وما فيه، وكل ما فيه يتكلّم وكأنّه إصبع يدل عليه.
ويزيدنا الشاعر ضد غباوة الذين لا تحملهم الخلائق إلى مبدعها، بل يقفون عندها وكأنّها المطلق، فيقول:
نِحْنَا مْنُؤْمِنْ فِيك وْبَسّْ
وْكِلْ مَا تْغِيبْ عْلَيْنَا الشَّمْسْ
مِنْصَفِّي لْحُلْمَكْ نِتْحَرَّقْ
إِنْت الْحُلْم الْـ عَمْ يِتْحَقَّقْ!!
وإيمانه المجروح بكذب الدجّالين، وممتهني بساطة قلوب
الناس، يعبّر عن اسيائه وقرفه:
مَسْطُول وْأَكْبَرْ مَسْطُولْ
كِلْمِنْ بِيآمِنْ يَا رَبّْ
مِنْ نقْطِةْ زَيْت وْقِنْدِيلْ
وِخْرَافَاتْ.. وْدَقّ طْبُولْ
بينما الإيمان يعيدنا إلى الداخل، حيث يسكن العلي، وحيث نرى باستمرار يده الخالقة الكريمة:
يا عايش فينا.. ومَقْتُولْ
...........
وْنِحْنَا دَايْماً مِنْلاقِيكْ
بْأَزْغَرْ مَخْلُوقَات الْكَوْنْ
بِالزَّهْرَه الْـ غَامِرْهَا اللَّوْنْ
بِالْعُصْفُور الْـ عَمْ بِيغَنِّي
بِالنَّحْلِه الْـ ما بْتِطْلُبْ عَوْنْ
وصفاء إيمان الشاعر يقف عند مصدر الإيمان عينه، فنسمعه يقول:
بَسّ الْـ مِتْلِي بِيحِبُّوكْ
بِيحِبُّوكْ بْحَيْثَكْ بَيّْ
أَوْسَعْ مِنْ جَنِّه.. قَلْبَكْ
وبهذا نرى أن الشاعر ليس ضدّ الإيمان الصحيح. هو ضدّ ـ وكم هو على حقّ ـ تصرّفات الدجّالين الذين ينتفعون من الإيمان، فيحركون مشاعر البسطاء بأمور تافهة لا طائل تحتها، ويعتقدون أن هذه التوافه تدرّ عليهم المال الحرام، وتقرّبهم من غايات وهميّة كاذبة، ومن أهداف لا تمت إلى الإيمان بصلة. والكرباج، إذ ذاك، هو الوسيلة الوحيدة لكي
يبتعدوا عن التدجيل. وإن لـم يرعووا وقد أسكتوا صوت الضمير.. فلا غرو إذا كان الشاعر يوقظ في البسطاء، أولئك المؤمنين الذين لا يفلسفون إيمانهم، شيئاً من الحرص والحذر.
ينتفض الشاعر ويقول:
وْبَعْدُنْ عَمْ يِتْسَلُّوا فِيكْ
يَا عُمْر الْـ مَا بْيِنْقَصْ عُمْرُو
يَا شْرِيكْ الْـ مَا عِنْدُو شْرِيكْ
هِنِّي بْدُونَكْ عَمْ يِفْتِقْرُوا
وْنِحْنَا دَايْماً مِنْلاقِيكْ
بْأَزْغَرْ مَخْلُوقَات الْكَوْنْ
فالشاعر ليس ضدّ نقطة الزيت، ولا ضدّ:
شَخْص مْفَبْرَكْ مِنْ جَفْصِينْ
وْجَفْصِينُو عَمْ يِرْشَحْ زَيْتْ
وِبْيِتْحَوَّلْ دَيْرَكْ بَيْتْ
وْنِسْوَانْ تْبَخِّرْ لِلدِّينْ
وْحُبَّكْ.. هَـ الأَسْمَى مْنِ الْحُبّْ
بْيِنْزِلْ بِمْزَاد التُّجَّارْ
وْبِنْدُورَات التِّعْبَانِينْ
دَخْلَكْ يَا أَللَّـه شُو صَارْ
بِيشُوفُوكْ بْنِقْطِةْ زَيْتْ
وِبْيِنْسُوا إِنَّكْ أَللَّـه
خْلَقْتُنْ كِلُّنْ عَ السِّكَّيْتْ
وْكِوَّنْت الدِّنْيِي كِلاَّ؟!
إنّما هو ضدّ نقطة الزيت عندما تنسينا "أنّك اللـه". يثور الشاعر ضد من يضع العرض موضع المطلق، والثانوي ضد الجوهر، ويتعلّق بالظواهر والخدع التي تقلّل، لا فقط، من إيمانه وتجعله خرافة، ولكن تقلّل من الإحترام لشخصه، وهو الّذي خلقه اللـه على صورته حرّاً وبعنفوان الإنسان وإنفته، ليدير شؤونه بنور العليّ.
فكيف لا يثور المؤمن أمام خزعبلات الدجالين ـ من كانوا، وإلى أيّة فئة انتسبوا ـ الذين هجروا الأصالة ونعلّقوا بالقشور،
وعاشوا ويعيشون بغرور وخدعة. فيقول الشاعر وهو يتوق دوماً إلى الأصالة:
فَجِّرْنِي حُبّ وْإِحْسَاسْ
وْتِرْتِيلِه عَ شْفَاف النَّاسْ
وِحْمَامِه تْبَشِّرْ بِالسِّلْـمْ
يَا رَبّ الْقَاعِدْ بِالْبَالْ
وقلبه الكبير الذي ينتظر من الخالق لا من العبد الغشّاش والمغرور، يطلب إلى اللـه أن يكون إيمانه، وأن تكون محبّته عطاء مستمرّاً وبأشكال عديدة لا تحصى:
رْسِمْنِي سَيْف بْوِجّ الظُّلْمْ
خْلِقْنِي يَقْظَه بْلَيْلِةْ حُلْمْ
............
زْرَعْنِي نَخْلِه بْأَبْعَدْ صَحْرَا
تَا فَيِّي بْسَاعَات الْحَرّ
تَا بَوْرِدْ قَلْب الْـ بِيمِرّ
وْضَايِعْ بَيْن الأَمْس وْبُكْرَا
يَا رَبِّي.. سَاعِدْنِي جِرّ
بِكْتَافِي الصّلْبَان الْحَمْرَا
تَا الْمُسْتَعْبَدْ رِدُّو حُرّ
وْبَعِّدْ عَنُّو مُرّ الْكَاسْ
وِالْمُتْعَصِّبْ خَلِّي يْقِرّ
إِنِّكْ وَاحِدْ مَا بْتِتْجَزَّأْ
بَيْن طْوَايِفْ شغْل النَّاسْ
فالإيمان إن لـم ينفجر عطاء فليس هو إيماناً. ويقول يعقوب الرسول إن الشيطان يؤمن بوجود اللـه.. إنّما إيمانه يحرقه ويعذّبه. إيمان المؤمن الذي يعطيه نوراً لا خدعة، يفجّر في قلبه ينابيع عدل وعدالة، ينابيع سلم وسلام، ينابيع أخوّة وصداقة، ويودّ أن يكون في كلّ مكان بحاجة إلى نوره وإلى قوته.
ـ3ـ
نرى من التحاليل التي سبقت أن الشاعر لا يضيع في آفاق نظريّة. إنّه يشخّص أمراض المجتمع الذي يعيش فيه بموضوعيّة واعية، وبأسلوب به يضع المبضع على الجرح. وكم من الأمراض يعاني منها مجتمعنا اليوم. إنّما أراد الشاعر أن يقف عند مرض المتاجرة بأثـمن وأغلى ما هو في الحياة: وجود اللـه ومعناه للإنسان، وإن رفضه، للإنسان، وإن قلّل من قيمته وجعله سلعة وشيئاً ما. أللـه يظلّ الخالق وإن أنكره الإنسان.. يظلّ النور حتى للجاهل وللمتعنّت والغشّاش. الشّمس لا يستطيع الأعمى أن ينكر وجودها، هي التي تنير العالـم.
نرى مرّات عند الشاعر قساوة شاملة دون تمييز، وهذا غلط. فمن كان للانتقاد عرضة، فعلى الشاعر أن يسلّط عليه سيف النقد والدينونة، وأن يحمي من لذعاته من هم في أصالة الدين وخدمته لوجه اللـه، محبّة بالإنسان الذي لا يكبر إلاّ باللـه، فيقول:
تْجَارَه.. تْجَارَه صَفَّى الدِّينْ
بْإِيدَيْن رْجَال مْلاعِينْ
شْيُوخ وْكَهْنِه وْحَاخَامَاتْ
عَ شْفَافُنْ مَطْبُوعَه الْـ (هَاتْ)
وْبِجْيُوبُنْ خَبُّوا مْلايِينْ.
ما أصدق هذا الكلام يطبّق على مَن لبسوا الثّوب الذي يميّزهم ولا يشرّفونه، ومن خلالهم تروح الملامة إلى غيرهم، ومسؤوليتهم عظيمة كشوكة في جسم الجماعة يجب اقتلاعها ورميها في النّار لتحترق: فأما أن تتجدّد في النار، وأما أن تهلك، ولا ندم عليها.
وفي مجال هذه القساوة، بدون تمييز، قول الشاعر:
بْرَمْت الدّنْيي بْطُول وْعرْضْ
تا أعْرِفْ لَيْش الْكُفّارْ
انْقَرْضُوا مْن شْوارِعْنا قَرْضْ
وْصَفُّوا بِمعابدْنا كْتارْ
لا نقرّ للشاعر بقوله هنا، إنما إذا وضعنا هذا النقد اللاذع في أجواء من ينتقدهم، في أجواء من يريد أن يجرحهم لعلّهم يرعوون، نرى أن هذه الشموليّة في النقد لا تلفّ إلاّ من يريدهم ويريد نقدهم، وهم عالة على المجتمع الذي يعطونه لوناً باهتاً، ويوصمون الدين الذي هو براء منهم بوصمة التجارة والغشّ. والدين الصحيح هو لقاء باللـه في أعماق الضمير ليس إلاّ، ولقاء بالإنسان أخي الإنسان، ليبنيا هذه الأرض ويعطياها ملامح الخالق وامارات الإنسان.
لا شك أن الشاعر بحسّه المرهف، يتألّـم وفيه الإنتفاضة عارمة، ولا يستطيع أن يوقف تيّار النقد وآفاقه واسعة، إنما يحتاج دائماً، قبل أن يعمّم انتقاداته، إلى شيء من علم اللاهوت، وإلى شيء من علم الفلسفة، ومن دروس ثقافية تقوده كلها إلى توجيه الإلهام العارم فيه إلى أهداف متساوية ومتزنة، ولا يعود عرضة للنقد في الإستسلام إلى آلهة الشعر فقط.
وهو صانع هكذا، عندما من وقت إلى آخر، وبصورة تقلّ قوة عن الإنتقادات، يعود إلى مدح مَن هم في إطار الدين، فيقول:
عَارِفْ مَهْمَا إِكْتُبْ ضِدُّنْ
بَاقِي فِيهُنْ نَاس مْنَاحْ
عَاشُوا بْهَالدِّنْيِي صِلاَّحْ
نِبْرَاسُنْ قَهْر الشَّيْطَانْ
نِبْرَاسُنْ خَيْر الإِنْسَانْ
الْمِتْشَوَّقْ تَا يْلاَقِي عِنْدُنْ
بَرْكِه وِقْدَاسِه وْإِيمَانْ
ولكي يشجّع الشّاعر من ينتقدهم إلى العودة إلى الضمير، وإلى طلب الغفران، فإنه يضع نفسه موضع الخاطيء الذي يستلهم
اللـه، ويطلب غفرانه، فيتطهّر من أدران الطريق، ويعود إلى صواب الأصالة والحق:
غْفِرْلِي يَا رَبّ غْفِرْلِي
مَهْمَا عْمِلْت بْعُمْرِي نَحْسْ
وْمَهْمَا غْدَرْتْ بْضَوّ الشَّمْسْ
بْتِبْقَى الْبَيّ الْـ مَا فِي مِنُّو
النَّاطِرْ حَتَّى يِنْدَهْلِي!!
وهو يعلم حقّ العلم أن اللـه لا يلتوي، هو إيّاه يبقى:
إنْت الْبَاقِي.. وْنِحْنا الْمَرْقَه
قدَّام عْيُونَكْ ياربّ
............
لْقِيتَكْ كَفِّه ما بِتْمِيلْ
مَهْما يِحْتالْ الإِنْسَانْ
نفحة وجوديّة تهيمن على شعر شربل بعيني، ينظر إلى الأمور حوله، لا يغيب عن واحد منها، ميله أن يرى ما يستحقّ النقد، وهذه ميزة المصلح الاجتماعي. الإيجابي ليس بحاجة إلى من يشيد به، وهو قبلة أنظار الجميع. السلبي يستوجب الإصلاح لكي يُبنى مجتمع على ركيزة هي رمز صحّة البناء واستمراريته.
نفحة جديدة في نقد شعري اجتماعي لشاعر برهن في دواوينه الماضية، وفي ديوانه الحاضر عن فكر ثاقب، عن
وعي اجتماعي صحيح، عن إيمان صريح لا يريد شائبة في المؤمنين، عن إرادة صلبة ليخلّص الإيمان من الدجّالين والمجتمع والغشّاشين.
نفحة تقود الشاعر إلى عفويّة التعبير، وصدق التأكيد، وصراحة النقد، ولهذا فإننا ننصح بقراءة هذا الديوان، ففي هذه المطالعة خير وفائدة جمّة، ونفع ثابت وتحريك للأفكار وتوجيه للعقل، وخاصّة الذي أراد الهدى فاهتدى.
**
رسالة
رسالة
حضرة الفاضل الأستاذ شربل بعيني المحترم
سلاماً ودعاء، أما بعد..
لقد استلمنا هديّتك الحلوة، كتابك من خزانة شربل بعيني. طالعناه، وما أوقفنا مليّاً هذه المخيّلة الجامحة التي تقودك إلى وضع صور وتصاوير يلذ بها القارىء، ويروح معك في عالـم تخلقه لنفسك، عالـم تريده أكثر عدالة ومحبّة بين بني البشر. وكم نجد في هذه الصور من الحزن والأسى أمام عالـم داس المظلوم، ولـم يأبه للفقير، بينما الغني ينعم بماله وإن لـم ينعم بأخلاقه، والفقير يذوق الأمرّين ويصمت مفضّلاً كتمان ألمه في ثورة داخليّة تتفجّر آهات وأنيناً.
جمعت أفكارك حول الإنسان، وعبّرت عن حبّك له الذي لن يكون صحيحاً بدون حبّك للخالق عزّ وجلّ، وثابرت على التطلّع إلى آفاق أكثر إنسانيّة من عالـمنا القائم الذي هجر اللـه والقيم، وأصبح سجناً للكثيرين.
إنما في بعض مقاطع كتابك أغلاط لا بدّ من تصحيحها، تقول في المزمور الأول من (مزامير ميلاديّة) ما يلي: (من منكم بدون خطيئة فليرمني بحجر، هكذا قال يسوع). والصحيح: فليرمها. وأود أن تكون غلطة مطبعيّة فقط.. وغلطات أخرى.
بارك اللـه انتاجك الأدبي الذي عليه أن يروح أكثر فأكثر إلى تعمّق روحي وفلسفي في مطالعات عديدة لست بغنى عنها، فيصبح شعرك حاملاً خبرة شخصيّة، وتطلّعاً وجوديّاً أعمق وأنجع.
**
أحباب
حضرة ولدنا العزيز الشاعر شربل بعيني المحترم
بعد إهدائك البركة الإلهيّة عربون محبّتنا وتقديرنا لك: لقد استلمنا ديوانك الجديد أحباب.
نشكر لك تلطّفك بإرساله إلينا. سنطالعه بانتباه، ونطلب إليه تعالى أن يبقي القريحة فيّاضة والإستمتاع للقارىء على تجدّد مستمرّ.
باركك اللـه وغمرك بخيوره ونعمه.
1 أيار 1990
**
عبارة من حديث صحفي لسيادته في لبنان
لسوء الحظّ، أدباء أستراليا لـم يتكلّم أحد عنهم. هناك الشاعر شربل بعيني، شاعر من زحلة (من مجدليا)، قدّمته في أحد كتبه بمقدّمة مؤلّفة من عشرين صفحة.