خزانة شربل بعيني والانفلات من الواقع/ فؤاد الرضا

شاعر مهجري نشر قصائده ومقالاته في جريدة صوت المغترب

لعلّ كتاب "من خزانة شربل بعيني" من الكتب التي ظهرت في الفترة الأخيرة على الساحة الأسترالية، في مجالات الشعر العربي، ويضم مجموعة من القصائد. 
وكان قد نشر معظم هذه القصائد على صفحات جريدة "صوت المغترب" بشكل أساسي وهكذا فتحت الباب على مصراعيه لمعركة نقدية عارمة أوجهها لكتابات شربل بعيني، على ان تكون بناءة من حيث المعنى مع احترامي وتقديري لشخصه.
تعود أهمية النقد لصدور هذه المجموعة ضمن كتاب، لا بد وانه يتداول بين أيدي الناس، وفيه بعض المواضيع المثارة، إذ تركز الحوار والنقاش حول سياسة، وربما أدب وممارسة لحياتنا اليومية ومفهوم الواقعية. 
ترابط القصيدة عنده شيء ملموس، ولكن، لا أنكر أن القصيدة النثرية لا بد من ترابط فيما بين جملها ومعناها، فلنأخذ مثلاً "مملكة الجن":
كان يا ما كان
في أقدم الأزمان
مملكة صغيرة حكّامها من "جان"
سكّانها من "جان"
وليس موجود بها عشبٌ ولا انسان
ميشال طوبيا، الفنان طوني حنا، سمعان الحتي وشربل بعيني
هنا، وقع فريسة التوسيع المباشر،  اذ ان القصيدة نوع من سرد قصصي، وربما الخطأ الذي وقع فيه هو قواعدي. بيد أنه يستحيل المرور على مثل هذا الكتاب دون التعليق على بعض ما ورد فيه، نظراً للثغرات الصغيرة اللاشعورية من جهة، وخطورة النزعة الثقافية الفوقية، التي تقع في مطبّ الابداع، وفي الوقت نفسه بالوضوعية والتواضع ورحابة الصدر والانطلاق من مواقع الزجل.
فالبطل الأساسي الايجابي سواء في الأدب والفن والشعر، أم في الحياة، هو الحياة، هو ذلك المعبر من خلال نظراته وأفعاله عن سمات الانسان التقدمي الطليعي في زمانه، والذي يحفز القارىء أن يكون شبيهاً له. ويقع شربل بعيني في حفرة يجب المرور عليها أثناء تناوله "وريقات اعتراف" فهو يقول:
اليوم بدأت أشعر أني ولدت من جديد
كنت كالسراب، كالخيال..
والآن..
أصبحت حقيقة،
أصبحت انساناً يشعر، يعطف، ويحب.
ان العمق في المعنى والمقصود الايجابي، لا وجود له في رمق هذه الجمل المتراكمة، مثلاً: "اليوم بدأت أشعر أني ولدت من جديد" ربما تكون موسعة بطريقة مملة، لا وجود للرنة الشعرية في معانيها، فلنستبدلها بـ "ها قد ولدت من جديد"، فأنا لست بوارد تصحيح ما جاء في هذه القصيدة، ولكن الشعر في حد ذاته، النثري، يعتمد على الترابط والمعنى، كي يحس القارىء، وبدون شعور منه، بالاندماج في عمقها.
كتابة شربل بعيني هذه لا تحاول الانفلات من سلاسل وقيود الجيل الذي انتمى اليه الشاعر، وساهم في تمزجة قصائده، بل استطاع أن يبتكر حساسية شعرية جديدة، قريبة من التعامل البدائي مع اللغة والأشياء، وذلك عن طريق استخدامه الذكي والمتقن لعناصر المروث الشعري: لغة، تصور، طريقة العرض والتوصل، التداعي، ومن ثمّ المنهج العام. هذا من جهة، ومن جهة أخرى عن طريق اتكائه على المفردة، الايقاع، واللغة، ولو كانت في بعض الاحيان ضعيفة:
حبيبتي 
أريدها لوحدي
أريدها، فهي كل حياتي
وحياتي ليست ملكاً لأحد.
مع المحافظة، طبعاً، على الاطار الشعري العام ولو من خلال طريقة روائية أو قصصية.
وثمة سؤال يمكن استخراجه من بين سطور "الخزانة" باعتبارها محتوية على مجموعة محصورة في الاطار التصويري للواقع، ولكن لم تستطع التغييرات التي طرأت سلباً أو ايجاباً على مسيرة الشعراء بشكل خاص، أن تنال حساسية النص الشعري عند شربل، وبالتالي تكراره وعرقلة مسيره.
باعتقادي وتصوري اذا كانت النوعية المميزة لأي حدث تتحدّد ببنيته، فإنها هنا، تختلف بشكل أو بآخر، بمعنى أن قصيدته هي مشروعها المستقبلي، وبذلك تكون قد اكتسبت عن طريق تجددها الدائم، وتفاعلها المستمر مع صيرورة الحياة اليومية، صفتها الجديدة. 
انه يتقن التعامل مع الاشياء جيداً، وبروح عالية، تماماً مثلما يتقنه مع الموروث:
حبك يا حبيبتي
مقدّس عندي
حبك اله اعبده
وقمر استلهم منه كتابتي.
حبك زهرة أسقيها بدمعي
وصورة ارسمها بدمي.
ما أحببت يوماً هكذا،
القلب يدعوك،
القلم يكتب عنك،
الفكر معك،
وكل شيء فيّ لك.
أنت أنا يا حياتي.
وأهمية اتقانه هذا، يكمن في تضمينه الاشياء رؤية قصصية بمستوى واقعها، ودون التخلي عن اطارها العادي المتجادل والضعيف، اضافة الى ان اداءه الشعري العام امتاز بعدة خصائص جعلته يفلت من قبضة هذا التردد، وان كان يربطه به ذاك الهم الذي عبّر عنه في هذه المقطوعة شاكياً ارهاقه.
واذا كان الشعر الحديث في المهجر يتغذى من الواقعية التصورية، فإن الحصار الذي يفرضه الشاعر على نفسه قد ساهم في عدم تبلور الوعي التجريبي لينفذ من ثم الى حقيقة الواقع الخارجي، وعمق المأساة الداخلية، وسرعان ما يجسد الشاعر هذه التجربة، فيكشف عن كل ما هو دفين في داخليته بشاعرية حارة:
قبليني قبلة ثم ارجميني
لم أعد أرضى بغلبي وأنيني
قبلة من ثغرك الورديّ.. حلْمي
فاعطينيها رحمة ان ترحميني
صحيح أن نقدنا للواقع طريقة جيدة للوصول الى ما نصبو اليه، ولكن ادراك الشاعر لقصيدته بشكل حسيّ يقع فريسة المباشرة، والتي كثيراً ما تأخذ طابعاً تجليسياً، وليختلط العام بالخاص النحوي، لينقلب الى تجديد خالص، فهل يمكن تبريرها هنا بأنها كتابة:
زِيدِي عَلَيَّ مِنَ الْهَوَى زِيدِي
وَحَرِّكي ،كَالسَّيْلِ،
صَخْرَ جُمُودِي
وَانْزَعي ثَوباً تَهَيَّبَ مَرَّةً
مِنْ أَعْيُنِي،
فَلَقَد شَفيتُ مِنَ البُرودِ
ولفرض اهتمامي، للقصيدة صدر وعجز، كما وتنتهي بقافية معينة، اي انها تحسب على الشعر المنظوم، ولكن الوزن مفقود، ولا تتناسب مع أي بحر من بحور الشعر.
ما لفت اهتمامي في أكثر قصائد المجموعة هي تلك المجانسة بين العام والخاص والواقع والحلم. بمعنى أن الشاعر استطاع، وفي كثير من الأحيان، أن يقرن المرئي المألوف بتفاصيل الحياة اليومية، فينزع عن الأول صفة الواقعية، ويعطيه بعداً دلالياً جديداً، ويضفي على الثاني حساسية خاصة لترقى الى مستوى الشاعرية المنشودة:
كنت طفلاً عندما أحببتني
قبلتني لا أدري كم قبّلتني
ليعبتني ورفعتني على صدرك
على قمّة النهدين أنت وضعتني
كم مرة في تختك نيّمتني
وخلعت ثوبك بعدما غفّيتني
ثم ابتدأت تبحثين عن فتى
فوجدتني مستلقياً فغمرتني
أحسست أنك موقد من لهبٍ
وكطائرٍ كنت أنا فشويتني
واليوم بتّ بالطفولة أحلمُ
فطلبتك لكنّك أنكرتني
فإذا كان ثمة براعة مبتكرة في التقاط الصورة، فلأن الصورة الشعرية هي نفسها، عندما تكون في مستواها المعرفي، فإنها تحدد جوهرها وتكون فصلاً بين حالة الخلق الفني وبين الأشياء المعبّر عنها، مع المحافظة، بالطبع، على الاطار الموضوعي للقصيدة كبناء متكامل، والتي تشكل مجمل الاحداث والمتغيّرات.
كثيراً ما يلجأ كاتب النثر الى التدجج بالآراء كموضوع ليوسعها ومن ثم ينهيها بطريقة غير مباشرة، فيكمن في داخلها الترداد الممل والتوسيع من حيث الوصول الى معنى بجملة كبيرة، في حين يمكن التعبير عنها بكلمتين. هنا يقع الكاتب فريسة تصفيف الكلام، ومن ثم يختل الترابط فيما بين جمل المقطوعة.
ولا بد من تلميح صغير على ان الشعر النثري شعر حر في حدّ ذاته، لا يلتزم بقافية واحدة، ولكن لا بد من أن يحتفظ بوزنه الخاص، ورنته الموسيقية المشوقة لكي لا يكون عملاً رديئاً ينقلب فحواه، وتنعكس صورته على كاتبه.
وفي مجموعة "من خزانة شربل بعيني" حوالي الثمانين مقطوعة شعرية من القطع الصغير، والكثير منها يبدأ الشاعر بها الى ان يصل الى قمتها ولا ينهيها، "الأرجوحة" مثلاً:
من يركب الأرجوحة؟
أرجوحتي عقد سوسن
مطعّم باللازورد
ورثتها عن ببغاء عجوز،
شحيح النظر، فاقد النطق،
أرجوحتي،
تصل الأرض بالسماء
والشمس بالقمر
والجميع، الجميع بلبنان.
قد لا يبالغ المرء اذا ما رأى في هذه الظاهرة ضرباً من رغبة مكتومة تجنح بالكتابة، وربما بالثقافة كلها، الى الخروج من دائرة الزمان الى دائرة الفراغ، مع أن الكاتب بحاجة الى الانخراط في بنية الزمان، ومع أن الشاعر برمته ليس سوى النقص في القدرة على استخلاص الزمان من أشداق الفراغ.
ان الناقد، اي ناقد، عندما يتناول موضوعاً ما أو قصيدة ما ليسددها وينقيها، فانه ينتقي الغلط الذي فيها، ليلفت انتباه كاتبها كي يعيد النظر فيما يكتبه، وبالطبع لا بد أن يتقبّل الكاتب النقد على نفسه من حيث انفتاحه على الثقافة والادب العربي، لأنه لولا النقد لما عرضنا الاخطاء.
وبما أنني بمثابة ناقد لديوان الزميل شربل "من خزانة شربل بعيني" وبعد أن قدمت الاخطاء التي اندمجت في كتابات هذا الكتاب، لا بد لي ان الفت النظر الى أن للزميل شربل الكتابات القيّمة، والتي يعيشها قارئها في الجو الذي اتبعه الكاتب، كقصيدة "اسمعوني جيداً"، فلا مجال لي هنا ان انتقد هذه القصيدة لأنها خالية من ألخطاء، ولكن لا بد لي وأن أمر عليها بحيث لفتت انتباهي عندما قرأتها بأنها تحظى على المعنى العميق والترابط فيما بينها:
حبسوني خلف عتمات الليالي
سارقين الضوء مني
تهمتي العظمى.. بأنّي
بعت أشعاري وفنّي
واشتريت الخبز للشعب الفقير
ذلك المصلوب في عرض المجال
ذلك الطالع من جرح خطير
ان الكلمة الجريئة المغمسة بالعطاء من أفضل الى افضل، ليست بعاكسة صورة كاتبها فحسب، بل تبرهن على براعته وقدرته على التقدم والتقدم.
ولا شك أن الزميل شربل بعيني هو القادر على تغيّر وتقدّم كتابته، وهذا شيء ملموس في الديوان الأخير على أن أوجه نقدي له في الوقت القريب.
صوت المغترب، العدد 889، 11/6/1986
**