تابع مقالات الأب يوسف جزراوي عن شربل بعيني

شربل بعيني.. الجديد
أديب إنساني علمني: ما من دارٍ ملئت حبرًا إلا وملئت عبرًا. وكاهن روحاني علمني: ما من قلب مُلىء من يسوع إلا وملىء من البركة.
كاتب معروف لا يشق له غبار، أديب في مطلع الستينيات من العمر، أحنى الزمن ظهره وأمال المرض رقبته، هو مثقف رفيع الشأن، يتمتع بثقلٍ أدبي وحس إنساني عميق. شاءت الصدفة أنْ يكون منزله على مقربة مسافة قصيرة سيرًا بالسيارة عن محل سكني في سيدني. فكنتُ ألقاه  في زمن محنتي وأتسامر معه كلّ يوم تقريبًا،ما عدا يومي السبت والأحد. وذات مساء جلسنا في بيته على مقعدين مُتواجهين وبيننا مائدة للشاي من الطراز القديم (الانتيكات)، كانت الجلسة مُريحة، والأحاديث مُتنوعة،مُسلية ومفيدة وتحدثنا عن إنَّ ذلك الإخلاص المُتجرد بات نادرًا في العلاقات بين البشر ولا سيّما في الوسطين الأدبي والكنسي؛حيث كثرت المنافسات الرخيصة وشاع الضرب تحت الحزام وتفشى التسقيط!.
قال لي: لا بأس يا أبانا...، ولكن الكلمة صدى لأعماق كاتبها وناطقها، فلا تتوقف عن إعلان أعماقك، فهي مرآة للكثيرين. علقتُ قائلاً: وما جدوى الكتابة؟ فكلّما هممنا بإضاءة شمعة أمل في درب الإنسانية المُعتم إلا وهبت رياح عاتية تزيد الدروب وحشة وظلمة وترمي بنا إلى نقطة البداية، ونحن مُنذ بداية البداية ورصيدنا مُنتهي!. توقف عن الكلام وصمت لبرهة! وبعد أن نظر إلى الأرض مُتنهدًا عاود الحديث بنبرة واطئة قائلاً: لقد سمعت من صديقنا أُستاذ (....)، إنّك كاتب ولك العديد من الكتابات المُفيدة والشيقة، لهذا أود أن أُسدي لك نصيحة مجانية: صدّر أفكارك للذي يُقدرها فقط. 
تطلعت إليه بحيرة وألم، وكان صمتي أبلغ جواب.
ثم عرجنا على مواضيع شتى، وألتمست فيه ميلاً  أو  رغبة للحديث بشغف عن حياته الماضية، ففتح  ملفات الذاكرة السوداء وأسترسل بالحديث، لهذا كنت كلّي أذان صاغية له. وبعد أن طال الحديث، وتبددت تحفظاته رويدًا رويدًا، شرع بالغوص في محيط الذات، فاتحًا الصندوق الأسود ليبوح عن خفايا قلبه ورحلة العمر الحياتية والأدبية المُتعبة، وأستذكر مواقف عصيبة ومشاهد أليمة ووجوه غادرة، فتعكرت صفوته، وبدا لي بعد أنْ راودني الإحساس بأنّ الرجل فضل الإنعزال والإبتعاد، بعد أنْ غدرت به الأيام وبعض أقلام الزملاء والتلاميذ!. وما زلت حتّى اليوم أُفكر أيّ غصة كانت تنتابه حين تصفحَ ذاكرة الأمس المليئة بالذكريات الموجعة!؛حيث كنتُ ألحظ كم كان وقعها ثقيلاً وقاسيًا عليه، ولقد ظللت أستمع إليه حتّى تجلى الغموض، بيد أنّني أدركت من خلال معرفتي له أنه لا يريد الغوص أكثر من هذا الحد في خزينة أسراره المغلقة.
سكتَ الرجل لبرهة وسادت حالة من الصمت المُطبق، ثم خرج من صمته ولكن سرعان ما عاوده الحذر من الأفصاح عمّا  تبقى مكنوناً في قلبه، وأكتفى بالحديث عن وصولية الزملاء الذين تسلقوا على كتفيه، بل على رأسه للوصول إلى مجد دنيوي زائل!  إلى أنْ تلعثم في الكلام ثم توقف. وبعدها أردف قائلاً:  لهذا فضلت أنْ أُكمل ما تبقى من حياتي بعيدًا عن تلك الأجواء المُرهقة التي أضرت بي!. أما أنا فلم أشأ أنْ أُعلّق بكلمة!. وبدا لي أنه لن يقول أكثر ممّا قال بعد أنْ ضاق ذرعًا بتذكر كُلّ تلك الأحداث المريرة المؤلمة، حينئذٍ عرفت أنَّ لكلّ أديب كبير صليباً، يثقل كاهله لكنه عكاز لطريق الآخرين. وقد لا اذيع سرًا إنْ قلت: إنَّ الرجل يرجع الي في بعض المواقف يتبادل الاراء ويستعرض الرؤى مفكرًا بصوتٍ عال مناقشًا معي الطموحات والنشاطات. وهذه ثقة أعتز بها.
لقد ربطتني بعد وفاة والدي علاقة أبوة روحية أنا الكاهن أب الجميع مع قلة قليلة من البشر الانقياء يقع في طليعتهم الآباء بطرس حدّاد ويوسف حبّي وروبير الكرملي رحمهم الله، ومطراني الجليل مار ميلس زيّا، شربل بعيني، يحيى السماوي. آمد الله بعمرهم.
واعترف هنا أنني وجدت في شربل الشيخ الذي ترك مجد العالم باحثًا عن مجد يسوع، كاهنًا قرب الكثيرين من يسوع. إنه أبونا شربل بعيني الذي سيظلّ يذكر له المهجر الأسترالي مواقف روحية وإنسانية وأدبية لا تُنسى.
**
مقتطفات من مُقدّمة كتاب المبدعون غرباء عن هذا العالم
عندما أصدرت كتابي " المبدعون غرباء عن هذا العالم" عام 2011، وطرحت فيه رؤيتي لمفهوم الإبداع، استقبل العديد من القرّاء والكُتّاب  ذلك الكتاب بحفاوة بالغة، ونشرت بعض المواقع الالكترونية نُبذًا عن الكتاب، الذي حاولت أن اخرج فيه بالروح العصرية لمفهوم الإبداع والمبدعين  في العالم بعيدًا عن أوهام العاطفة من خلال تسليط الضوء على شخصيات عراقية وعربية ة  قضت حياتها كالشمعة تشتعل وتتوهج في سبيل الإنسان. إلّا أنَّ البعضَ صارحني يومذاك  بعد وضع نظارته السوداوية بإنَّ الإبداعَ في عالمنا اليوم قد تحول من حلمٍ إلى وهمٍ. بينما ذهب البعض الآخر للمبالغة في القول بإنَّ الواقع العالمي المُعاصر  بشكلٍ عام والعراقي بنحوٍ خاص قد جعل مفهوم الإبداع يبدو تارة كالأحلام البعيدة  وتارة أخرى كالأوهام القريبة،  وإنَّ شعوبَ الشرق العربي بطبيعتها حالمة تعيش على أصداء تراثها وتسعى دومًا إلى الاحتماء بمظلة تاريخيّة تجعلها مستغرقة في الماضي أكثر من انغماسها في الحاضر أو تطلعها إلى المستقبل.
حقيقةً لم يرق لي هذا الكلام، لذلك عكفت عبر السنين  الماضية إلى تدوين لقطات إبداعية لشخصيات عرفتها  عن قربٍ في بقاعٍ مختلفة من العالم ، ساقتني ظروف حياتي إليها، فبرقت إلى ذهني فكرة أن أكتبَ عن بعض الشخصيات التي  قابلتها  وعرفتها في حياتي وأن ألمس فيها عن قرب الكثير من السمات الشخصيّة ، مسلطًا الأضواء على مسيرة اصحابها وأدوارهم، شارحًا كيف طبعوا بصمتهم الإبداعية الواضحة في الحياة. فرأيت أن أخرج بها بكتابٍ سيّما بعد أن لقيتُ التشجيع من أبي الروحي وأستاذي الجليل شربل بعيني الذي راجع لي العديد من صفحات هذا الكتاب بمعية شاعر العراق الكبير يحيى السماويّ، وكأنها صور  حياتية إنسانيّة لأشخاصٍ رأيتهم في رِحلة العمر  سواءً في الشرق أو الغرب، في بلدي أو في المهجر، إذ يداعبني أملٌ لا اراه بعيدًا، وأنا أعدّ كتاب "هؤلاء عرفتهم عن قربٍ" بأنْ يرى هذا الكتاب النور في المستقبل القريب  إنْ قيض لي الله في عاصمتي  بغداد.
**
مقتطفات من مقال عن أنطوني ولسن
لدى أرض الكنانة - مصر أسماءٌ لامعة يعتز بها المصريون على مرّ العصور، وإنني اليوم أدون بأمانة بعض ذكريات العمر الذي مضى لرجل  يُعد أحد كبار مصر. عرفته وهو في منتصف السبعين من العمر، فأصبحت كمن يلحق بالقطار السريع قبل الوصول إلى المحطات الأخيرة. إنه الإنسان المهموم بشأن بلاده التي عرفت في التاريخ بأمّ الدنيا . وهو ذلك المصري الوطني الغيور على بلده، الذي يتمتع بالخلق الرفيع والضمير المُستقيم، والسلوك النظيف واللسان العفيف، إلى جانب صفاتٍ أُخرى بتُ اراها غير شائعة في حياتنا اليوم.  إنه الأديب المصري المرموق أنطوني ولسن أو " العم ولسن" كما يحلو لي أن أناديه.
تعود معرفتي به إلى شهر أكتوبر من عام 2011. واذكر للرجل من المواقف الجميلة التي لا أنساها، يوم أقيم حفل كبيرٌ لتكريم  ذلك الشيخ الجليل بتاريخ 29/1/2012  بمناسبة إطلاق كتابيه:" الحُبّ هو الدواء" و" ذكريات العمر اللي فات"، إذ شرفني الرجل لكي أكونَ مُتحدثًا فيه وسط حشدٍ رفيع من المثقفين والأدباء المصريين والعرب، فوجدتها  مناسبة مؤاتية لكي أتحدث عن الرجل ودوره البارز في الثقافة المصرية والمشهد  الصحافي  العربي في سيدني بدقائق معدودة لاقت استحسان الحضور، ولا زلت اذكر كيف نهض العملاق الكبير بطرس عنداري رحمه الله، من مقعده حيث كان يُجالسني رفقة الدكتور موفق ساوا والاستاذ شربل بعيني وشقيقه جوزيف، ليهنئني على كلمتي وسلاسة المفردات وسلامة اللغة، فشكرته، وابلغته بأن الفضل يعود إلى استاذي الجليل شربل بعيني الذي يُصحح اخطائي اللغوية. ولعلّي لا أكون واهمًا إنْ قلت: يُخالجني شعور بأنّ ذلك التشريف الذي مَنّ به عليّ الأستاذ أنطوني جاء بالتشاور مع صديق غربته شربل بعيني. وفي تضاعيف الذاكرة لا زلت اتذكر أنَّ في ذلك الحفل الجميل عرضت على الأستاذ موفق ساوا رئيس تحرير صحيفة العراقيّة الأسترالية، فكرة استقطاب العم انطوني ليكون أحد كتّاب العراقيّة، فوافق الأستاذ ساوا بلا تردد ودونما تحفظ، لأنه يدرك جيدًا قيمة الرجل ومكانته الأدبية والإنسانية، وطالبني بمفاتحته فورًا وعرض الفكرة عليه،  وقد لقي الطلب ترحيبًا من العم  أنطوني، وباشر فعلاً بنشر مقالاته في العراقيّة في مطلع شهر شباط من السنة ذاتها.
...
نشر أول مؤلفاته عام 1993، بتشجيع من والدة صديق غربته الطويلة  الأديب الكبير شربل بعيني، فتلك المرأة التي توفاها الله برائحة القداسة على ما يبدو لم يكن لها اليد الطولى في نجاحات ولدها التي تصلي له اليوم من السماء، ولكن كان للكاتب المصري أنطوني ولسن من فضائلها نصيب، اذ أصرت يومذاك وألحت على السيّد أنطوني وشجعته على النشر، ونزولا لطلبها نشر العم ولسن مع مرور الشهور "ميثاق الشيطان" وهو كتاب قصصي صدر عن دار عصام حدّاد في بيروت والذي يعتبر أول كتاب قصصي يصدر لمصري خارج مصر. الكتاب في الأصل نص مسرحي كُتب في مصر، في زمن تزامن مع اصدار الرئيس الأسبق لمصر جمال عبد الناصر ميثاق الجمهورية. كما وينسب الرجل الفضل الاخر إلى المهندس بدوي الحاج أبن شقيقة الأستاذ جوزيف خوري الذي كان حديث الأنضمام إلى أسرة تحرير صحيفة المستقبل وقتذاك، والذي ساهم أيضًا بتشجيع المؤلف على إصدار أول مؤلف له، فحمل الكتاب  إسم " المغترب " في 6 أجزاء . وكان اخر كتاب صدر له بعنوان "في ليلة خنقوا فيها القمر"، سيدني 2014. وهو يعد الآن 4 كتب جديدة باللغتين العربية والإنكليزية .
....
كما ويقوم شيخ الكتّاب المهجرين بالوقت الراهن بمطالعة الصحف وبعض الكتب وقد كان اخر كتاب فرغ من مطالعته حسب ما أبلغني، هو لكاتب هذه السطور (احاديث قلمٍ) ولقد اوجز الرجل مطالعته للكتاب بمقالٍ شرفني به، وأعد تلك الكلمات التي سطرتها انامله الذهبية وسامًا أحمله على صدري ما حييت، وأحفظ للرجل جميلا أخر لن انساه أبدًا يوم سطر تعليقًا حول مقابلتي في تلفزيون الغربة الاسترالي؛ حيث كتب في 2 ابريل 2012 :
أبونا الأديب يوسف جزراوي السامي الإحترام .. تحية ومحبة المسيح لكم. كم سعدت بهذا اللقاء الروحي، الأدبي، والإنساني .
أبونا يوسف إنه لشرف عظيم لأبناء الجاليات العربية عامة والعراقية خاصة بوجودكم معنا في أستراليا .الرب يبارك أعمالكم. والكلمة هو الباقي" والكلمة صار جسدا وحل بيننا ". ونحن من يؤمن بخلود الكلمة في كتاب نتركه لمن يأتي بعدنا وليكون الكتاب كاتم سر تاريخ أحداث وأفكار الحقبة التي عاشها وتعايشها صاحب الكتاب ومؤلفه وكاتبه. يقولون لقد طغى الإنترنت على قراءة الكتب.. وأقول لا ما زال الكاتب والكتاب وسيظلان إلى الأبد الشعاع الذي ينير البشرية ويأخذها إلى الإرتقاء والتقدم . وما نقرأه على الإنترنت ما هو إلا نتاج كاتب ووضع في كتاب عيبه الوحيد أنه غير متكامل للكاتب الواحد. لكنه "الإنترنت" حافظ لما نكتب وينشر على صفحاته ويمكن للكاتب أن يعود إليه لجمع ما سبق ونشره ويصدر به كتابا .
أبونا يوسف جزراوي شكرا لكم على إصداركم الجديد ونحن في إنتظار توقيعه . شربل بعيني شكرا لكم على هذا اللقاء الأدبي المميز".
**
مقتطفات من مقال عن أنطوان قزي
 ذات يوم كان استاذي الاديب شربل بعيني منهمكًا بتنقيح كتابي " المبدعون غرباء عن هذا العالم"، فطلبت من اديبنا المذكور طامعًا بسخائهِ أن يتفضّل عليَّ وينقح كتابي الآخر، لكن الرجل أعتذر بلطف وشفافية لضعف بصره وعدم قدرته على القراءة الطويلة، فأسدى لي الرّجل النصيحة بالإتصال بالأستاذ أنطوان قزي رئيس تحرير صحيفة التلغراف الاسترالية لأنه أديب قدير ولغوي ضليع. وقد اخذت  بتلك النصيحة واتصلت بالأستاذ قزي وعرّفته بنفسي وعرضت الأمر عليه، فأبدى الرجل موافقته وتحمسه، ولكن يا فرحة ما تمت! فالمدة الزمنية التي حددتها  لمراجعة الكتاب لم تسعف الرجل يومها.
مضت الشهور، وإذ بصديقنا الأستاذ موفق ساوا رئيس تحرير صحيفة العراقية الأسترالية يبادرني بفكرة زيارة الأستاذ قزي في مقرّ صحيفة التلغراف  لغرض منحه دعوة التكريم في مهرجانٍ رعته مؤسسة العراقية للثقافة والإعلام، وقد كنت أنا والأديب أنطوان القزي من ضمن العشرين شخصية اللذين كرمتهم مؤسسة العراقيّة في سيدني بتاريخ  8/3/2012.
لقد استقبلنا الرجل والحق يقال  بحفاوةٍ بالغةٍ وترحابٍ كبير، وقد التقط  لي يومها بعض الصور الشخصيّة في مكتبه ومن ثم نشرها في صحيفته المذكورة مرفقة بغلاف كتاب المبدعون،  فكنتُ له ولكرمهِ شاكرًا. ومع الأيام ربطتني بالأستاذ أنطوان قزي صلة إنسانيّة طيبة  وصداقة أدبيّة عميقة على مرّ السنوات الماضية، وايقنت فيما بعد يوم اشرف على التنقيح اللغوي لكتابيّ ( أفكار وتأمّلات من تُراب) و( أحاديث قلمٍ في مرايا الذات والمجتمع) إنه انسان  مجتهد ألمّ بأطراف اللغة العربية وبرع فيها بجدارة، وأدركت أنَّ الاستاذ شربل بعيني وجهني نحو الشخص المناسب والمُنقح الامين.
**
مقتطفات من مقال عن د. موفق ساوا
ولا يفوتني أن اذكر أن الرجل كان  قد حاز على جائزة شربل بعيني العالمية بتاريخ 8/3/2012 بسيدني في احتفالية مؤسسة العراقيّة يوم كرمت نخبة من مبدعي الجالية؛ وكان الرجل قد شرفني بدرع التكريم بعد أن وقعَ عليّ الإختيار لكي أكون من قبل الشخصيات التي حظيت بالتكريم  من قبل لجنة المهرجان.
**
مقتطفات من مقال عن الفنان حيدر عباس العبادي 
ذات صباح وبينما أنا جالس اتناول قهوتي ومندمج بمراجعة مخطوطة كتابي "ملحمة كلكامش ط1"  رنّ هاتفي الشخصي -الموبايل -  وكان المتحدث هو الرسّام المعروف حيدر العبادي، مستفسرًا عن مضمون اللوحة التي كنتُ قد كلفته برسمها منذ زمن لتزين  غلاف الكتاب المذكور. حينها حبست الالم في صدري، ومضيت للقول بنبرة الخجل: انني اود لوحة لكتابي "أفكار وتأمّلات من تُراب" وليس للذي ذكرته، لأن  الرسام العراقي المتألق د. وسام مرقس انجز لي العمل. ويجب أن أعترف هنا بإنَّ الرجلَ كان مرنًا متفهمًا ومهنئًا، وابدى استعدادًا وتحمسًا، فجرى الاتفاق على لقاءٍ  قريب تتم خلاله تلاقي الرؤى حول مضمون الكتاب ورموز الغلاف التعبيرية.
وفي مطلع شتاء عام 2012 تلقيتُ دعوة من قنصل لبنان السابق  السيّد ماهر الخير لحضور امسيته الشعرية التي اقامها في "الاوبرا هاوس" بسيدني، فذهبت صحبة عميد الادباء المهجريين الأستاذ شربل بعيني، وهنالك رأيت الاستاذ حيدر الذي كان له معرض فني واسهام ملحوظ بتصميم ديكورات العرض المسرحي الذي رافق الأمسية الشعرية. تطلعت إليه ونظرت إلى جبينه فوجدت تاريخ العراق، امعنت النظر بوجهه ذي البشرة السمراء، فتذكرت بلدي. حدقت النظر في عينيه السوداوين وعرفت تلك الأوقات القاتمة التي قضاها في بلده.  تفرست به مُجددًا، وإذا بمتاعب رّجلٍ أنفق شبابه للفن ترتسم على محياه، كأنك تقرأ فيه تفاصيل اليمة وهمومًا دفينة. رّجل يبحث عن تفاصيل فنية تخرجه من قعر تلك الأيام المظلمة التي يصعب على الذاكرة نسيانها!
 صافحته وتعرفنا على بعض، ثم إنتحى بي جانبًا نحو جدارياته وبدأ يتكلم وأنا أتأمله بهدوء وأركز عليه، واستمع لحديثه العذب وهو يشرح لي ولغيري الرموز الظاهرة في لوحاته، حتّى إنني كنتُ لا أريد للوقت أن يمرّ وأتمنى على الساعة أن تتوقف، خصوصًا أنني مغرم منذ سنوات بمتابعة الفن والركض وراء جمال الالوان. وحين انتهى العرض في ليلة تألق فيها رسامنا أبن الفرات الاوسط، سرنا معًا إلى رواق مفتوح لنتناول المعجنات والعصائر، فشاطرته الخبز والملح، أو "الملح والزاد"، كما نقول في لهجتنا العراقية الدارجة، وادركت أسرار ريشته وطريقة عمله، ورحت أُشيد به كرسام رائع، وكمفكّر يحمل رؤية فنية جميلة، وكعزيز نفس لا يعطي لأحد سوى المحبة والانسانية والسمعة الحسنة. وهذا ما حفزني أكثر لكي يجمعنا عمل مشترك. ثم تجمع حولنا نخبة من رموز المشهد الثقافي العربي في سيدني وكانت هموم العراق وشجونه هي محور حديثنا، وكان طبيعيًا أن تستأثر بغداد  منبع الثقافات بالنصيب الأكبر من اهتمام الحاضرين.
**
لماذا ترجم الديراني قصائد شربل بعيني؟
 منذ عصور سحيقة والأدب السرياني هو النافذة الضوئية في ليل المعرفة الإنسانية، وقد لا يغيب عن العارفين أنّ الأدب السرياني وحركات الترجمة لدى السريان قديمة كقدّم التاريخ، لكنها  نشطت في أزمنة كثيرة ولنا أسماء لامعة في هذا المجال نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مار افرام السرياني الملقب بـ (كنارة الروح) ، حنين بن إسحق الطبيب والأديب السرياني، يعقوب السروجي، أبو الفرج عبد الله بن الطيب الكاهن والمترجم العلاّمة،
ومن المعاصرين: عادل دنو، نزاز ديراني، أديب كوكا، نمرود صليوا.....وقد لا يختلف إثنان على قولي : إنّ بغدادَ في عهد خلفاء بني العباس باتت ملتقى لمحبي الثقافة والعلم والحكمة، ومن يتتبع تاريخ هذه المرحلة سيرى أن كلّ شيء كان يبدو مهيئًا لأفتتاح عهد حضاري جديد، فانفتحت الأبواب على مصراعيها أمام أصحاب الفكر  والعلم والأدب، فتمكنوا من الكشف عن مواهبهم وتطوير علومهم بفضل احتضان  بعض خلفاء بني العباس لهم، ويشهد التاريخ أيضًا بأنّ العالم اجمع مدين لبغداد التي اصبحت إبّان تلك الفترة أمّ الدنيا ومحط الانظار،  فقد كانت جسر الصلة بين ثقافات عدة منها: اليونانية والسريانية والعربية.. ولا عجب ان قلت ان الفضل في ترجمة الكتب الفلسفية والتاريخية والأدبية والطبية من اليونانية إلى السريانية ومن ثم إلى شقيقتها العربية يعود إلى الفلاسفة والأدباء والأطباء السريان . وهنا نود تعميم حقيقة جليلة مفادها: إنَّ كلّ تقدم وازدهار حصل في تلك الفترة لهو بفضل الجهود الجبارة التي بذلت من قبل ابناء بغداد من علماء على اختلاف مللهم ونحلهم ومذاهبهم، وبشكل خاص السريان منهم، وذلك خلال حُقبتين مرت بهما بغداد في العهد العباسي فكملت احداهما الأخرى،
الحقبة الأولى اشتهرت بعصر الغرس وبذر البذور، أما الحقبة الثانية فكانت للحصاد وجني الثمار، أقول هذا وعيني موجهة صوب الديراني في محاولته المعاصرة الخلاّقة ولكن بشكلٍ معكوس، إذ من المعهود والمألوف هو أن تتم الترجمة من اليونانية أو السريانية إلى العربية، لكن الأمر أبهرني وأدهشني حين علمت من صديقنا واستاذنا الشاعر شربل بعيني عن مساعي صديقنا المشترك الأديب العراقي السرياني نزار حنّا الديراني، بترجمة  بعض أشعاره من العربية إلى السريانية.
ونزار الديراني لمَن لا يعرفه، هو اديب سرياني مرموق، عراقي الهوية إنساني الجنسية، اسمه وصورته رافقا اسمي وصورتي في بعض المجلات والنشرات التي كانت تصدر في العراق منذ دراستي اللاهوتية ومطلع رسالتي الكهنوتية، واذكر  أنني ذات يوم استلمت هوية إنتماء إلى  اتحاد الكتّاب والأدباء السريان في العراق برقم عضوية 41 مؤرخة في 15/8/2004/ الصفة كاتب، تحمل توقيع الكبير نزار الديراني رئيس الإتحاد..
مضت السنون وعادت المراسلات بيننا، عسى أن تكون  بداية عهد جديد لصداقتنا الأدبية والإنسانية، وادرج هنا مقتطفات من رسالة صغيرة ارسلها لي قبل بضعة أسابيع خلت، جاء فيها:
"الأب يوسف الجزيل الاحترام..
حين كنت في بغداد وقبولك عضوا في اتحادنا انقطعت اخبارك عني، في حينها سالت بعض الاباء ممن كانوا في دورتك، فعلمت انك مسافر، ولكن لم أدر ألى أين. أرجو أن تكون هذه فاتحة الاتصال بيننا .
تحياتي واشواقي".
ولعلّي ابوح بسرٍ  هنا: حين جاءني صوت الديراني  عبر الهاتف شعرت أن صوتًا من عصر الثقافة وزمن  الحلم الجميل قد دغدغ مسامعي، سيّما حين حدثني عن فاعلية عضويتي في الاتحاد المذكور وتكليفي بالتشاور مع الاديب السرياني عادل دنو  في مناقشة السبل الانجع لفتح فرعٍ للاتحاد في استراليا.
لقد عرفت نزاز عن طريق رسالة الأدب وميادين الكلمة، وتوطدت المعرفة بيننا بواسطة الأب سامر  صوريشو الراهب، ومع كرّ الأيام وفرّها  لمست في جعبته  كلمة مرموقة كلّما كتبَ عن أدب او عن أديب، لا يمشي في تبعية أحد، ولا يُفرض عليه موضوع، عرفته حرًا في أختيار الموضوعات التي يؤمن بها، وهو يحلق بعفوية وقناعة وجرأة في سماء الشعر والأدب. إنّه المتألم وحبّ العراق يؤرقه، كانت الكتابة متعته ووسيلته في اسعاد القارئ، يكتب عن الحياة، لأن الحياة تضج فيه وتدله على كتاباته.
أبصر الديراني النور في منطقة دير ابون- زاخو 1956، حاصل على بكلوريوس إدارة واقتصاد- الجامعة المستنصرية في بغداد. عضو اتحاد الادباء والكتّاب السريان وعضو اتحاد  ادباء العرب منذ عام 1985، عضو جمعيات ادبية وثقافية عديدة، منها: عضو مكتب الثقافة السريانية في الاتحاد العام للادباء والكتّاب العراقيين، جمعية اشور بانيبال،رئيس اتحاد الادباء والكتّاب السريان منذ عام 2003- 2010 وعلى مدى ثلاثة دورات متتالية. نائب الأمين العام لاتحاد الادباء والكتّاب في العراق منذ عام 2004- 2010.
عمل عضوًا في تحرير مجلة ( قالا سوريايا، الاديب السرياني ومديرًا للتحرير، ربانوثا، الاديب العراقي. القى العديد من المحاضرات والندوات واشترك في العديد من الاماسي الشعرية داخل العراق وخارجه.
له عشرون مطبوعًا، يعد كتاب (شهيد من ديرابون) باكورة اعماله 1984، وكتاب ( شربل بعيني ومعاناة الهجرة) آخر مطبوعاته الحالية 2015.
يهرب الديراني بشكل متواتر إلى عزلته وبين جوانحه تتراقص كلماته، يمتشق القلم حين يجد دموعه تجري مع مداده ، لتخط فوق القرطاس حكاية وطن يدعى العراق. ينسج في مهجره وغربته الاليمة داخل الوطن قصيدة الدهر على جبين الاتقياء، فو يخشى أن يدخل الوطن في متاهات الذاكرة ليصبح مجرد ذكرى.
لقد كتبتُ هُنا كلّ ما اعرفه عن الأستاذ نزار حنّا يوسف الديراني، الكاتب العراقي والشاعر السرياني والأديب الإنساني، إذ أنّني أحتار من أين آتيه وكيف أجازيه، لأنه وبِلا مغالاة أحد أشهر الأقلام السريانية في العالم.
أما الشاعر الكبير شربل بعيني فهو غني عن التعريف، إنه  لبناني المولد، عراقي الدم، أسترالي الجنسية، ألتقى بالديراني في عروس الشرق بغداد عام 1987، إذ التقيا وجهًا لوجه في المربد الشعري. ذلك هو الشاعر الإنسان الذي امتدحه كبار الشعراء بدءًا من نزار قباني، مرورًا بالبياتي والجواهري، وصولاً إلى الكبير يحيى السماوي الذي اطلق عليه لقب عميد الأدب المهجري في استراليا.
انقطع ودّ الإتصال بين الشاعرين منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى قبل  سنوات خلت، تجددت الصداقة بواسطة صديق ثالث وهو: د. موفق ساوا.  وإذا بالديراني  يفاجئ البعيني بكتابٍ جمع بين دفتيه إنتقاءات شعرية، حيث انتقى الديراني  جميع مراحل حياة الشاعر اللبناني شربل بعيني وقصته مع الوطن وقرفه من الغربة. وكأن قصائد البعيني كانت لسان حال الديراني في غربته عن بغداد.  لقد كتبَ شربل ما بقي من ذكرياته مع المعاناة في ذاكرة الجسد ، أما نزار فقد برع في  ترجمة تلك الذكريات، كيف لا. وهي ذكريات عمر اكلته الغربة.
والآن إليكم الأسباب التي دفعت الديراني للقيام بمحاولته الخلاّقة:
يقول الديراني :
"منذ مطلع السبعينات وحين استهوتني الساحة الثقافية وبالاخص الشعر ، اطلعت على الكثير من الشعر العربي بدءا" من المعلقات فتلمست في حينها ان غالبية الشعراء المتميزين هم اللذين اطلعوا على الشعر العالمي اعني قصائد الشعوب الاخرى ، فبدأت اقرأ الكثير مما يترجم الى العربية وعلمت في حينها كم نحن بأمس الحاجة الى ان ترجمة ذلك الى لغتنا السريانية التي كانت يوما الجسر الذي يربط الشرق بالشرق والشرق بالغرب ... والتاريخ يشهد على المساحة التي احتلها السريان في علم الترجمة  فكان هذا الشعور ينمو في داخلي ، ولان بدايتي كانت كتابة الشعر العربي فسهل علي تذوق هذا الشعر وترجمته ...
في الثمانينات حالفني الحظ ان التقي واصادق شاعرا لبنانيا قادما من استراليا في مهرجان المربد الذي كان ما يميزه وما يشجعنا المشاركة فيه هو التقاء شعراء من خارج العراق لنتعرف على تجربتهم الشعرية وخصوصا كنا نحن اغلبية شعراء العراق نعيش في قفص كبير ، ولم اكن ادري في حينها لماذا تميزت صداقتي مع الشاعر شربل بعيني اكثر من الاخرين علما انني كنت احاور واتعرف على العديد من الشعراء الاخرين من امريكا وكندا ومصر وتونس و...
وحين تناولنا اول كأس من مشروب العرق تمازجت عناصر الكتابة لدينا وتحول الشعور والدافع للكتابة الى جسر يربطنا وحتى بعد ان عاد الى وطنه الجديد استراليا ، فتبادلنا مطبوعاتنا وكانت اول بادرة منه حين كتب في صحيفة استرالية بالعربية عن كتابي (الكيل الذهبي في الشعر السرياني) وحين قرأت قصائده عرفت السر الذي دفعني باتجاهه اكثر من غيره ، وكيف لا يتمازج شعورنا ان كنا معاً نرى مصيرنا ومصير الانسانية في الشرق الاوسط واحد، وكلانا يتحدر من جذر عميق لالاف السنين لشجرة عملاقة تنتشر جذورها ما بين العراق ولبنان وسوريا وجزء من تركيا وبلاد فارس و... وكنت اعرف ما الذي يعني ان يحضر الشاعر جزءا من تراثه الى عصرنته فكان زميلي ينقل جزءا من هذا التراث من خلال لغة شعبية بسيطة كنت اتلمس فيها العديد من مفردات لغتي فاحسست برسالته التي يريد ان يلفت انظارنا بها الى جذورنا وهذا كان من بين العناصر التي جمعت معاناتنا رغم الاف الكيلومترات التي تفصلنا ...
وبسبب المأسي التي حلت بالعراق بعد مطلع التسعينات انقطعت اخبارنا ومراسلاتنا .... فبعد طبع ترجمتي الاولى (من الادب العربي الحديث) التي كانت تجمع بين دفتيها اسماء كبار الشعراء العرب من جيل السياب بادرت لترجمة قصائد لجيل ما بعدهم وكانت قصائد زميلي شربل تدغدغني ولكن بسبب الظروف التعيسة التي حلت بالعراق بعد الاحتلال الامريكي جعلتني اترك بيتي ومكتبتي ومسوداتي في بغداد واعيش الفصل الثاني من معاناة الغربة في قرية تقع في اقصى الشمال (المثلث الحدودي تركيا سوريا العراق ــ وهي مسقط راسي حيث كانت قبل ان تسلبها منا الحكومة بسبب التعريب اية من الجمال)،  بعد ان عشت الفصل الاول من هذه المعاناة في بغداد وهذا ما كان يجمعني وزميلي شربل . لذا التجأت الى الانترنت لاستل بعض قصائده وخصوصا الجديدة منها فتلذذتها اكثر من السابق لاني وجدت في غربته الثانية (المهجر) جبلا من المعاناة فكان لي بمثابة مرآة كبيرة اجد فيها معاناتي الحالية والمستقبلية فترجمت بعضها في كتابي (من الشعر العربي الحديث)
ولكن طالما كان يعيش احدنا في الاخر ويتذوق مأساة الغربة حالفنا الحظ ان نلتقي من جديد ولكن في هذه الحالة من خلال الانترنت، فطلبت منه ان يرسل لي بعض قصائده لاترجمها بديوان مستقل، فمثلما اجد نفسي فيها هكذا سيجد القارئ من بني قومي نفسه فيها...
عندما كنت اقرأ قصيدته (ارزتنا) كنت اجدها وكأن شاعرنا يريد ان يقول عوضا عني ها هي رموزنا ( الثور المجنح، اسد بابل، الجنائن المعلقة ...) تئن وتختلج وتتنفس انفاسها الاخيرة وهذا ما حصل بفعل داعش وبسبب الهجرة والانقسام ففقدت ما كان يربطها بصلابة جذورها وارضها لذا ارتجفت امام الريح وكأن الشاعر قد رأى وتنبأ بمستقبل حضارتنا وتراثنا العريق.
وحين كنت اترجم قصيدته (رسالة الى فخامة الرئيس) كنت احس وكاني انا الذي يكتب الرسالة لا مترجم لها، فكل واحد منا يحتاج ان يكتب رسالة كهذه الى فخامة الرئيس على شرط ان لا يكون من بين الذين يصفهم الشاعر بانهم  يَتَقَاذَفُونَ الشَّتائِمَ ، يَتَلَفَّظُونَ دَائِما بِحُرُوفِ الْكُرْهِ وَالتَّحْقِيرِ ، وكيف لي ان لا اجد نفسي في شعره وهو يقول ما يقوله ابناء شعبي وهم يتظاهرون ( بِلادُنا، فَخامَةَ الرَّئيسْ..بِحاجَةٍ إِلى قِدِّيسْ) وهذه رؤية ثانية . وكم نحن اليوم نتشوق لنقول لوطننا وحكومننا ما قاله الشاعر في قصيدته حب في لندن (قولي: أُحبُّكَ..) وهكذا حين كنت اترجم قصيدته دراجات امستردام تيقنت فعلا ما الذي جمعني واجتذبني الى الشاعر شربل بعيني في منتصف الثمانينات، حيث نتقاسم كلانا نفس الشعور فهو يكتب في المهجر قصيدته (دراجات امستردام) وانا اكتب في بلدي الذي اصبح هو الاخر مهجرا لي قصيدتي (مهدي ) سوى انه استخدم مفردة الدراجة والدولاب كويسلة لحفظ ونقل حُبَيْباتِ الْعَرَقِ الْمُتَصَبّبَةِ من عرق جبين اجداده وهم يصنعون التاريخ في لبنان ،لِتُنْعِشَ بِها أَزْهارَ الْعاشِقيَن ساعاتِ الْجَفاف. اما انا فقد استخدمت المهد وعقرب الساعة لاعكس صور حبيبات الدم وصور السيف الذي كان يقطع رؤوس اجدادي ... وهكذا في بقية قصائده لذا حين كنت اترجم قصائده لم اجد نفسي غريبا عن شعره ولم احتاج الى قاموسٍ لانه لم يكن يصنع الكلمة بل ينحتها .."
ما سطرته أنامل الزميل الديراني لم تشفِ غليلي ولم تروِ ظمإي، فعاودت الإستفسار بهذه الرسالة:
عزيزي استاذ نزار المحترم
لقد ايقنتُ من أجوبتك السابقة بأنَّ المعاناة المشتركة كانت سببًا دفعك للترجمة، أو بمعنى آخر  انَّ معاناة شربلنا وهمه الوطني وهو  يعيش لبنانيته من قارة تقبع في آخر العال،، قاداه للحنين والتغني بوطنٍ هرب من ساسته وحكّامه إلى غربةٍ جعلته يتعلق بمرابع صباه  أكثر من ايّ وقت مضى، ولعلّه سبقكَ في ترجمة هذه المعاناة والمشاعر إلى  صورٍ شعرية وزجلية. وكأني بك وجدته  يُجسد شعريًا مأساة بلد الرشيد ومنارة المجد التليد. ولكن الّا يوجد بعد أدبي أو بلاغة صورية حفزتك لتخطو مثل هذه الخطوة؟ فربّما الكثير من الشعراء الشرق اوسطيين المغتربين كتبوا عن هول الازمات في بلدانهم؟ فلماذا قصائد شربل بعيني تحديدًا؟ ما الذي وجدته في أدبه؟ فمثلا شاعر العرب الاكبر نزار القباني سبق تجربة عميد ادباء مهجرنا الاسترالي شربل بعيني بهذا المجال بقصيدته عنترة.
ودعني أكون اكثر وضوحًا: ما الذي وجدته في أدبه مغايرًا ومتميزًا عن شعراء كتبوا عن التجربة ذاتها؟
فجاءني الجواب كالاتي:
عزيزي الأب يوسف الجزيل الاحترام
"أنا لم ادخل في التفاصيل، فما قلته يحمل بين طياته حداثة بمعنى الكلمة، فعندما قلت انه استخدم تعابير شعبية في قصائده هذا يعني انه مازج البعد الواقعي مع الرؤية المستقبلية، وهذه احدى معالم الحداثة في الشعر، فهي تشبه عملية استخدام القناع والاسطورة، وعندما اقول انسجامه مع معاناة الانسان فهذا يعني انه ارتقى لمرحلة اعلى من المدرسة الغنائية من ذوات الانا.  وهكذا.. ترجمتي هذه لم تكن دراسة نقدية بل هي بداية الانجذاب، فعندما تجد لوحة تستهويك الصورة أولا لتقف ومن ثم تتأمل ...ما قصدته كان يشمل البعد الحداثوي في اللغة التي خلصها من كلاسيكيتها الممقوتة والشكل الذي اعطاه فضاءً واسعا ومضمونا جديدا واقعيا ".
 والحال بين العربية والسريانية كان تلاقح للروئ وتنقيح للأفكار بين شاعرين من العراق ولبنان،  كلاهما لخص المأساة بطريقته الخاصة. إنّها محاولة رائعة آمل ان تلحق بها وتتبعها محاولات أخرى في المستقبل إن قيض لك الله الأمر.
في الختام أمضي للقول:
حقًا غريبة هي الغربة، تجعلنا نحّن لوطنٍ هربنا من جحيمه إلى قرفها؛ غربة تجعلك مزروعًا في كلّ فضاءات العالم؛ ولكن ماذا ينفع المرء لو انتشر في كلّ الأوطان وخسر وطنه!  فيقيني أيها العزيزان الديراني والبعيني، أننا لم نخلق لنكون شتاتًا في الأرض ولم تلدنا أمهاتنا لنوقد شمعة عن روح الوطن في صومعة التشرد.
طوبى للعراق وللبنان اللذين انجباكما وهنيئًا للكلمة بكما. وشكرًا لمحبوبتي بغداد التي جمعتكما.
**