رسائل محمد زهير الباشا لشربل بعيني 1

أديب سوري كبير ومؤلف كتاب:
شربل بعيني ملاح يبحث عن الله
الرسالة الأولى
دمشق/السبت/26-9-1987
أخي الأعز الشاعر شربل بعيني المحترم
تحية شوق ومودة وبعد
فمن يد كريمة ونفس سمحة، وصلت إليّ مؤلفاتك الخمسة مع مؤلف الأستاذ كلارك بعيني، ويبقى فضل هذا الوصول للأخ الأديب الأستاذ نعمان، بعد أن استفسرت عن وصولها بالبريد، وكان الجواب سلبياً كعادة نبلاء هذا العصر.
أخي الأعز..
البحث عن عبير وردة فواحة مشكلة كل عاشق، والإنغماس ذوباً برؤية بسمة، هي قضية كل شاعر وفنان أصيل، والحب كل الحب صدق يتوهج في كل قلب، والضمير المتيقظ على غروب أمل يشقيه فجر يتوهم قربه.
وإذا ما سارت النفس مع كلماتك في مؤلفاتك، يسعدها أن تلتقي بها لتعرف كيف أن طريق الجلجلة وحده يصنع الأرواح ، ويهندس النفوس.
كم كانت لحظات ممتعة وأنا أتلقى من الأخ نعمان تلك المؤلفات، وكم كانت لحظات ممتعة وأنا غارق في ـ اللوحة الدمشقية ـ الخصبة التي رسمتها بإمعان وإخلاص للحرف أنامل الدكتورة سمر العطار.
وكم كنت أتمنى أن أعرف ألوان ومشاهد تلك اللوحة التي ظلت في درج الاختفاء لا يعرفها إلا المقربون والعارفون، لكن ليس لي نسخة سوى النسخة التي تفضّل بها وأعارني إياها الأخ نعمان. ليتك تتوسط لي مع الأديبة فترسل لي نسخة من روايتها، التي زخمت وجمعت ونوعت، إذ يحلو لي العودة إلى روايتها لأستقي منها دراسات جديدة، لعل الأمر يتوفر لك، فأكون لك من الشاكرين.
كما يسعدني أن أجعل من دراستي المتواضعة عن مؤلفاتك كتاباً خاصاً بنتاجك الشعري، فما هو رأيك؟.. إذ الدراسة الموجزة، نقداً أو شرحاً أو تعليقاً، أو تحليلاً، تبقى مغامرة قلم في لحظة توهّج، أما الدراسة الموضوعية الشاملة التي تظهر في كتاب تكون أجدى على الأدب العربي (في المهجر الأسترالي). بانتظار موافقتك، أتمنى أن أقرأ لك المزيد المزيد من هذا العطاء الغني، وأنا اليوم أعيش أسعد الأيام مع مؤلفات شعرية لأديب مهجري في البرازيل، ليكون اليوم الآتي كتاباً متكاملاً عنه.
مع أطيب تحية وأعمق مودة لكم وللأخ كلارك، وللأديبة الروائية الدكتورة سمر العطار، وبانتظار رسالة من يدك التي تزرع الأمل في القلوب.
وإلى لقاء قريب.
محمد زهير الباشا
دمشق
**
صحة وعافية
دمشق/1 كانون الثاني 1988
أخي الأعز الشاعر شربل بعيني
تحية طيبة وبعد
فأرجو أن تكون والاخوة الأدباء في أتم صحة وعافية.. فآلة العيش صحة وشباب، كما قال أستاذ الشعراء المتنبي، وكيف يمتلك الأديب صحته وهو يقدم دفء حياته من أجل من يعشق وما يعشق، وقلبه شباب دائم لا يعترف بالمشيب؟!
أعيش هذه ألأمسيات مع مؤلفاتك عيشة الزاهد بكل صفحاتك، أقرأ تصويرك المجنح، وأتلمس عذاب الضمير، هذا الضمير الذي رفّ سلاماً وبركة وحضارة في كل عصر، حين التقت الأرزة والنخلة في مضمار عطاء حضاري نبيل.. ويطول الحديث عن الاستعمار وذيله اسرائيل، فقد نام الضمير العالمي، استغفى واستعفى، استجلبوا ضمائر قدّت من نار السامري، ولم يتذكروا حساب فرعو على ميزان العدالة بريشة طاووس. واستلبوا من الانسان نور عينيه، منذ وصول رسالتك إليّ، وأنا أعترف لك بأنك منحتني ثقتك الغالية اعترافاً، أود من خلالها أن تستمر مواسم الخير والجنى بيننا، ليكون التعامل مثمراً، وقد تعودنا على الوضوح، لهذا كثر العزال والحساد واللائمون ووو..
فكرة تأليف كتاب لاقت منك الثقة والتأييد، هذا جيّد، ويمكن الارتياح لهذه الفكرة، لكن الصعوبة يا أخي تكمن فيما يلي:
1ـ موافقة من الجهات الرسمية تحتاج إلى أشهر.. فالجهات الرسمية عديدة، ومن الضروري أخذ موافقتها.
2ـ تأمين الورق الجيّد للطباعة يكلف كثيراً كثيراً، إن من السوق السوداء الخاصة، أو من غيرها.
3ـ تأمين الكرتون.
4ـ أجرة الطباعة في هذه الأوقات غيرها قبل عام أو عامين أو ثلاثة.. وأنتم تدرون بالأسعار وبالتكاليف من أجل أن يكون الغلاف جيداً، فهي باهظة.
لهذا فإني أقترح ما يلي..
استمر بتأليف الكتاب عن نتاجك الأدبي، وأرسله إليك مطبوعاً على الآلة الكاتبة، وفي سيدني تتكرم أنت فتشرف على طباعته ونشره، فالطباعة لديكم أسهل من غيرها في بلاد أخرى.. (وأن توافيني بتفاصيل عن حياتك بترجمة تبين فيها صعوبة الحياة في الوطن، في المهجر، الأعمال الكاملة التي قمت وتقوم بها). ويمكن أن يكون الكتاب يحمل عنوان: شربل بعيني بأقلامهم 3، أو أي عنوان آخر يتفّق عليه.
بانتظار ما يمكن أن نتفاهم عليه، أتمنى لك دوام العنفوان والغضب، وأن يبقى صدرك بحراً زاخراً يقذف الطحالب من براثنهم.. لكن لي عتاباً على الدكتورة سمر العطار، كنت بانتظار رأيها حول ما كتبت بكل صراحة وقوة، إذا بي أفاجأ بكلمة شكر ترد في رسالتها للأخ نعمان، مع العلم أني أتلقى رسائل حول ما أنشر عمن يكتب ويبدع، إلا صاحبة اليراع المتمرد، فأنا لا أكتفي بما ورد.
وللأخ كامل المر أطيب تحياتي، فقد وصلتني تحيته برسالة للأخ نعمان.. فشكراً له.
تحياتي الصادقة إلى الأخ كلارك، وليبارك الله لكم غزارة الرؤى والمزيد المزيد من الغضب على لصوص الدم والثروات، والجاحدين، والذين لا يعملون ويسيئهم أن يعمل الآخرون.
مه هذه الرسالة صورة عن مقالة حوارية: حوار في ضباب، أرجو أن ترى النور في إحدى مجلاتكم، وأن توافيني بنسخة عنها.. (الجورية والقذيفة)، فمتى يعود العطر إلى شمس بلادي؟
المخلص
محمد زهير الباشا
**
لمن أكتب.. ولماذا أكتب؟!
دمشق/9 آذار/1988
الأخ الأعز والشاعر المرهف الاستاذ شربل بعيني المحترم
تحية صدق ووفاء ونحن على درب العطاء
وأنت تبني في قصيدتك الواحة الغناء
لكن الطحالب أكبر وأشد افتراساً من شوك الصحراء.. عجبي..
رسالتك تثلج قلبي، واشعر بدفء كلماتها، فإذا كان البريد يعمل على الفحم الحجري فهذا إطراء، لأن فيه دفئاً إنسانياً، بعد أن أصبح الأدب ينمو في حلوق المتاجرين بالانسانية.
لدي، على اختصار، من المخطوطات ما أن أنظر إليها وأراها خبيئة الدروج المظلمة والأرفف المغبرة، حتى ألوم نفسي كيف كتبت؟ ولماذا؟
هل أنفقت من عمري زهرة السويعات وأمضيتها لأكتب؟ ولمن أكتب؟ للجاحدين.. للسارقين من عيون الأطفال فرحة عمرهم؟!
وما الجاحدون والسارقون إلا أولئك المتطفلون على ألأدب والفن والكلمة!..
لدي مخطوطة عن الإنسان الذي خدع بالأسلحة الفاسدة عام 1948م.. وهي رؤية. ومجموعة قصصية عن الواقع الاجتماعي والنفسي المرير. ومجموعة قصصية للأطفال، ودراسات في النقد، وآراء حول الأدب والشعر. ولم أتمكن من نشر سوى:
مجموعة قصصية بعنوان: خيوط من رماد.
ومسرحية انتقادية عنوانها: من تحت لتحت.
وموازنة شعرية حول شعر حسان بن ثابت في الجاهلية والاسلام.
وهناك في المصنفات دراسات أخرى عن أبي تمام، وجرير، والنواسي وابن خفاجة.
لهذا كله اشعر واني في القطب عند جزر الفولكلاند، كما تسميها بريطانيا العجوز، أرقب تيارات الرياح، وأصطدم بثلوج يسيّرها زعانف الحيتان.. وطلب مني أخيراً أن أؤلف بعض ألأغنيات، وبدأت فعلاً بتأليف أغنية متواضعة ، صغت مطلعها: حبيتك مليون مرّه.. وشرع الملحن والمطرب بالتمرين عليها.
لم أكن أتصور يوماً أن الظروف تجبرني على أن أتنازل عن أجواء الدراسة والبحث والتنقيب إلى جو أحبه، وهو جو الغناء والموسيقا. اما أن أؤلف أغنية، ويطلب مني الأغنية الراقصة والنشيد الوطني، فهذه اسطورة من قدر يتلاعب بأعصابي، إذ لا بد من التنازل في عصر العمالقة بأسلوب (حك لي لحك لك)، فالحك بالتبادل يؤدي الى الامن الدولي.
في الاسبوع الماضي، تكرّم عليّ الأديب نعمان بزيارة، وجرى الحديث حول تأليف كتاب شامل عن إبداعك، وشعرك، فتفضل الاخ نعمان ووضع النفقات بالليرة السورية، وفق ما يلي بصورة أقرب إلى الصواب، وهو المتمكن من معرفة النفقات:
240 صفحة× 15 ملزمة× 1500 ورقة
النفقات:
45000 ل س ثمن ورق + 15000 ل س تنضيد وبلاك + 5000 ل س ثمن غلاف + 4500 ل س اجرة طباعة + 4500 ل س اجرة تجليد. المجموع74000 ل س، بما يعادل 2500 دولار أمريكي/ لألف نسخة فقط. ترسل إليك 500 نسخة، والباقي 500 نسخة توزع بسورية، ويكون ثمن النسخة 74 ل س، الكلفة بما يعادل دولاران ونصف. وهذا الأمر يتم بالاشتراك مع الأخ نعمان إن وافقت على هذا الأمر، أما إذا وجدت الأمر سهلاً لدى طباعته عندكم (وباسمي فقط) على باب التواضع، فأرجو إجابتك لأتمم ما أزمعت به حول تأليف الكتاب عن مؤلفاتك، وسأعلمك بتسمية الكتاب، فأرجو التفضل بإبداء الرأي حول هذا الأمر.
إن المادة، الدولار، يقف كالغول يفترس كل ابداع، ليبقى صوته هو الأعلى، ولو صرخت جميع القبائل بأفريقيا إنها جائعة، لرمى لها بالنتف من الخبز المحمّص، فتركع وهي أم الخيرات في هذا الكون.. تجوع ثانية.. وقرناً.
أشكر لك اهتمامك بما ينشر لي، وكنت أتمنى لو تفضّلت بنشر الأبجدية كاملة عن (وذقت الذي ذقته مرتين)..لعل ذلك يكون أوضح في الحديث عن ألأخطل، وما مازجه من لقاءات فنية بشعرك وزجلك.
تحياتي إليك، وآمل اللقاء بنبضات قلبك التي أستمد منها الرؤية لخير البشرية.
أحييك مع سلامي إلى الاستاذ كامل المر، متمنياً للجميع دوام الصحة والسعادة. أما راحة البال.. فكلنا في الهم شرق.. أو قل معي: فكلنا في الهم سيدني.
دمت أخاً كريماً وشاعراً ملهماً..
محمد زهير الباشا
**
شقيق الروح
دمشق في 23 نيسان 1988
الأخ الأعز شربل بعيني الأكرم
تحية صدق في كل كلمة أرسلها اليك، وما اعتاد قلمي إلا الصدق في زمن مغلف بأقواس قزحية تحتار كيف جمعت فكان البياض على معادلتها يوحي بصفاء القلوب.
شكراً لك أيها الأخ الأعز على هذه الثقة الطيبة، وأرجو ألا تكون بأي حيرة تشغلك، أو أرق يبعد عنك وعنا أنغماسك في دنان الشعر، وخوابي الابداع المترفة في شعرك.
فعقب اللقاء مع الأخ نعمان حرب، وهو شقيق الروح كما تعلم، وأنا لا أميّز بين شاعر وأديب، فكلهم في الضمير رفاق الكلمة الت تحارب الطاغوت والاستغلال والتشرذم.. أطلعت الأخ نعمان على رسالتك، وتم الاتفاق وفق رسالته إليك، ووفق ما جرى التعاهد عليه.. تكون الدراسة التي هيّأت مخططها وفهرسها وزواياها حول إبداعك الشعري، وأنا ما زلت غارقاً في أجوائك، تكون الدراسة من الوجهة الفنية والابداعية والتصويرية مهيأة بقلمي المتواضع ، ويقوم الأخ نعمان بالترجمة الذاتية والمقدمة، وتكون محتويات الدراسة واحدة من قبسات الأدب المهجري، عقب موافقتك على هذا الاتفاق.
وقد تفضل الأخ نعمان مشكوراً، فتسلمت منه ديوان (ألله ونقطة زيت)، قل لي بربك.. هل بقي في قنديل فيروز نقطة من زيت لنمسح ضمير المقاولين، وباعة الرقيق وتجميع الذهب في كنوز خبّأها علي بابا ومعه أرقام الخزائن.
قرأت كلمة الدكتورة سمر العطار عن المرأة العربية كيف تنظر إلى نفسها.. إنها أديبة متمردة على جدار مهترىء.. حلو تمردها، تصيب المفصل ولا تدمي.. تدمي العيون تقرحاً ولا تجرح.. بل تجرح المتضرر لتري العيون أين مكامن النفاق. تحياتي لها.. مع أطيب تحية للأستاذ ألأديب كامل المر، والأستاذ فؤاد نمور، والاستاذ أكرم برجس المغوّش.. وإلى لقاء برسالة من لمعة أناملك.
واسلم لأخيك
محمد زهير الباشا
**
شاعر يبحث عن الله
دمشق في 16/7/1988
أخي الأعز شربل
أطيب تحية لأغنى قلب
وبعد..
فإني لأشكر لك إرسال رواية الدكتورة سمر العطار عن (البيت في ساحة عرنوس)، ولقد حاولت تصوير رواية لينة، لكن الظروف لم تسنح لي بذلك، فكنت أسجل المقولات عنها اعتماداً على الدراسة الأولى فحسب.
وسلّم الله يديك بنشر هذه الرواية الثانية التي وصلتني اليوم السبت، وسأبحر في ثناياها، فور انتهائي من طباعة الدراسة الأدبية النقدية حول دواوينك الشعرية وفق المنهج الوصفي والمنهج المعياري.
فالدراسة مهيأة، ولله الحمد، واسمح لي زمناً يتناسب مع العودة من جديد إلى دواوينك، وعلاقاتها بالدراسة وفق ألأبواب التالية مع عنوان مؤقت: شربل.. شاعر يبحث عن الله.
فمن هو الله؟
ما ذاتيته لدى الشاعر؟
ما هي رؤيته الجمالية على ضوء الأرز والوطن والانسان والله؟
الأبواب مؤقتة قابلة للثبات أو للتغيير:
1ـ مقدمة عامة
2ـ لبنان
3ـ الغربة
4ـ عالمه الداخلي
5ـ المراهقة
6ـ مجانين
7ـ عالمه الفني ورؤاه وصوره
8ـ الله..
واليوم بدأت بطباعة الباب الأول والثاني، ولي عودة عدة مرات إلى دواوينك، مع الله، ومع الدراسة معاً.
أكرر لك أن هذه اللغة كمثيلاتها عاجزة على التعبير عن أدق ما يود ان يعبّره القلب بقلم متواضع، يحمل كل معاني الحب والسمو والمودة في هذا الزمن ألأغبر. وأرجو أن أقوم بهذه المهمة المسؤولية، فالثقة هي المروءة، هي العدالة، هي النور الذي يجمعنا لخدمة الإنسان، كي يعرف الحقيقة، وما الحقيقة إلا جوهر الإنسان، والانسان ظل الله في أرض. سأرسل الدراسة فور انتهائها بإذن الله.
لك مودتي وتحياتي مع أطيب سلام للدكتورة سمر، وللأديب كامل المر، واسلم لأخيك
محمد زهير الباشا
**
غاية الغايات
دمشق في 27/8/1988
أخي الأحب شربل
تحية غالية وأمنية أغلى
ألف عذر وعفو من قلبك الكبير لاضطراري إلى التأخير بسبب تغيير عنواني المدون في الأسطر الأخيرة من هذه الرسالة، حيث تأكد سفري، وسأتوجه إلى عنواني الجديد بعد ثلاثة أسابيع من تاريخه، لهذا أرجو موافاتي بكل ما يستجد من نتاج أدبي وفني وفكري.. ولن تنقطع الصلة ألأخوية بيننا طالما استبشرنا بالخير مع طلوع كل فجر، فسوريا كل يوم تواقة كي يكون الوطن كله بعيداً عن الشرور والآثام.
وقبل وصولي إلى ذلك العالم الجديد.. أحييك، فقد أصبحنا غرباء، وكل غريب للغريب نسيب، والغربة طويلة قاتلة، والسنابل خيّرة في البيادر، وحب الوطن في الدم لا تغيره الأمكنة ولا الأزمنة.
الدراسة بين يديك كما عهدتك أمانة ورسالة، فأنت حر بما تضيف أو تحذف أو أو.. طالما وجدتها أمانة بين ناظريك، فالعمل نحو ألأفضل والأكمل هو غاية الغايات.
تحية الطيبة للدكتورة سمر، وللأخ كامل، وللاخوة الزملاء.
مع خالص الحب والاحترام.
رجاء إعلامي وصول هذه الدراسة وشكراً سلفاً.
أخوك
زهير
محمد زهير الباشا
**
الرحيل إلى فرجينيا
22/10/1988
الأخ الأوفى شربل بعيني المحترم
تحية صدق ووفاء وأشواق وبعد
فاليوم وصلت إلي رسالتك المكتوبة بخط يدك الطيبة، وسررت كثيراً لوصول دراستي المتواضعة عنك. فأنت الشاعر الذي أدرك من مفاهيم الكون ما لا يدركه غيرك، ووضعت يدك على اسرار هذا الوجود وضع من يعرف ويناقش ويستوعب، فلا ضبابية ولا انطلاق في مساحات الوهم ومشارف الخيال، بل جندت خيالك وأحلامك وطموحاتك لتكتب حروفك بتوهج فؤادك، فكانت دواوين لهوى الفؤاد، وملاذاً لكل خفقة تألمت من وباء هذا العصر وأمراضه، ولا مجال لأي احصاء عالمي أن يعد هذه الأمراض بدءاً وانتهاء مما هو كائن على البسيطة.. اسمه الإنسان.
وكنت اسجل مقاطع الدراسة في وقت صعب جداً، ولكني تابعت وتابعت رغم الأقاويل.. رغم أن الكثيرين يودون أن يأكلوا لحوم الآخرين، وسررت بأن العمل جارٍ على طباعة تلك الدراسة.
ومع السرور.. ان كتاب الاستاذ كامل المر في مشواره، جاء إلي مع رسالتك، وإن أولى الرسائل خارج حدود العالم الجديد قد وصلتني من يد ابنتي القاطنة في لندن. وكانت رسالتك الأولى من أستراليا، فكان لها الوقع المفرح في قلبي.
الآن توزّعت أسرة الباشا إلى قارات ثلاث: الإبنة في لندن.. شمل ألأسرة في أميركا.. بقية جذور الاسرة في الجزائر.. أخت واحدة ووحيدة في دمشق. وليتني أستطيع أن أشرح ما أنا فيه من عذاب لفراق الوطن، وأن أشرح لك ما هي الأسباب التي ادت الى خروجي منه.
كنت في الوطن غريباً، والغربة فتاكة في حضن من تهواه وما تهواه، وقد فقدت كثيراً من العناصر الإنسانية في أرض الوطن، وصبرت، وصبرت، حتى استطعت أن أهيىء لأبنائي الحياة الصعبة في هذا العالم الجديد. وإنها، أيها الأخ الأعز، ليست رحلة إلى هذا العالم المتفجر بالعمل ليلاً نهاراً.. إنها عملية بقاء مع الأسرة في فرجينيا، قريباً من واشنطن دي سي.
أخي الأوفى..
ليس هناك أصعب وأتعس وأقسى من أن يظلم الانسان أخاه، ابن عشيرته، ابن حيّه، وقد تنفّس كل منهما هواء الفصول، وشربا من نبع الحياة، ورغبا باقتطاف كل الثمرات المباحة، او التي تحمل شهامة لا خوف عليها.
وفي دمشق، كنت أعيش بين جدران بيتين:
أولاً، بيتي الذي أبيع أثاثه الذي اقتنيت منذ سنوات وسنوات، ويحز في قلبي اني أبيع ما كانت تصبو إليه نفسي: الكتب يا شربل، مقدسات الفكر، خلاصة المشاعل الحضارية، أبيعها لتاجر يجمع الكتب بأنواعها، والمجلات بألوانها، ليبيعها على الأرصفة بدمشق، وليخبىء بعضها فيتاجر بها.. خناجر من الحزن والألم والشقاء كانت تحز في جوارحي لحظة كنت أقدم كتبي للبيع.. والثمن بحس.. كثمن الانسان في بلدي، عفواً، في بلدنا.
وأنظر.. هذا السرير نمت عليه، والنافذة تلك فتحتها للشمس، وهذه غرفة السفرة، يشتريها تاجر هو موظف بالجمرك.. ووو.. وعملية البيع أخذت مني كل ألأوقات، وجلبت عليّ التعاسات، وعرفت أشخاصاً على حقيقتهم، فمنهم، وهم قلة، وقفوا معي بعواطفهم، واستعدادهم للبذل. ولا بد من أن أشرح لك الاسباب التي دفعتني للرحيل.
ومنهم من كانت صداقتي لهم تزيد على عمر بيتي هذا، يستغربون ثمن الأثاث، وثمن الكتب، وأشهروا بوجهي سيف المقاطعة، بل سيف النكران لعهد كان بيننا، وصداقة كنت أظنها وطيدة، لكنها تهافتت.. رغم أنهم لم يشتروا ، ولم يشجعوا، ولم يخففوا عني بكلمة، بل كانوا ينقبّون عني: لماذا تسافر؟ وأين؟ ومتى تعود؟ وهل من الضروري السفر؟ الخ. مما لا يجروء قلمي على ذكره، ويا للأسف. وهم يعلمون أن عليّ أمانات عقب ترحيل زوجتي، ثم ترحيل ابنتي، ثم ترحيلي إلى فرجينيا، والأمر كان في غاية التعقيد، لولا رحمة ربك.
ومهما تحدثت إلى قلبك الكبير، فإن لي به خفقة مودة تخفف عني متاعب تلك المرحلة، ومتاعب هذه المرحلة التي أستعد بها فأعمل في الأكايمية مدرساً للغة العربية وآدابها، وأضع نصب عينيّ تدريس مادة ألأدب الحديث والنقد المعاصر في إحدى أقسام الدراسات الشرقية في إحدى الجامعات، لكن هذه الفكرة الأخيرة تحتاج إلى وقت، وإلى صبر، وإلى دراس للإنكليزية، حيث أني أضعف من ينطق بها الآن، وتحتاج إلى إقامة دائمة، وإلى بحث مستفيض، وإلى نوع من المساعي الطيبة لدى المطلعين على هذا الأمر.
ثانياً: البيت في ساحة عرنوس، كنت أقرأه وقرأته بدمشق، فعشت في بيتين معاً، وخاصة وأن البيت في ساحة عرنوس قريب من بيتي في دمشق، زرته، لا يفرق بيننا سوى شارعين صغيرين، بينهما مخفر الشرطة والشرطة في خدمة الشعب كما يعلنون.
والآن، عدت إلى البيت فر عرنوس لقراءة جدرانه، ومعرفة أحوال من كان قبل عشرين سنة من باعة ودكاكين. صحيح إني بعت البيت في دمشق بثمن بخس، لكن بقي معي البيت في عرنوس، أقلب صفحاته، وأتصور أماكن الأحداث، وأرى الأماكن التي بقيت حتى الآن، وما الذي طرأ عليها.
الأخ الأوفى..
اعذرني.. اعذرني، فقد أطلت، ونحن في القارتين غريبان، وكل غريب للغريب نسيب، وأنت لم تكن ولن تكون غريباً عني، فأنت الأخ الأوفى، حماك الله من السوء ومن أهله، ومن دعاة الزيف.
مع تحياتي المخلصة للدكتورة سمر العطار، والأخ كامل المر، وأرجو أن أوفق فأطوف في مشواره معك.
إلى اللقاء، واسلم لأخيك
محمد زهير الباشا
**
جنون وتحدٍ
الثلاثاء في 29/11/1988
خيي شربل..
تحياتي وأمنياتي لك بالتوفيق.. وبعد
فقد ألبستني من الأثواب ما جاءت على مقاييس عديدة، فكيف أرد لك بعضاً من جميلك ومعروفك؟ يكفي منك (خيي زهير) في عصر ماتت فيه أرواح الأشقاء.. وجدت في كلماتك كل معاني الأخوة، فلماذا نتشرذم ونتقاتل على المادة باسم التمدن وانتشار العدالة ـ الممطوطة ـ أفراحي ما زالت تصبو إلى أن أدخلت الفرحة في قلبك، لكن هذه الأفراح جاءت في أعسر الأوقات.
أكتب إليك هذه الأسطر وأنا في مستشفى فيرفاكس، عقب زيارة أم العيال، التي أجرت البارحة عملية في قلبها، الذي تحمّل قساوة هذه المرارة، هذه الحياة.. واستمرت العملية الجراحية من الواحدة والنصف إلى الخامسة، وعدت إلى البيت فوجدت النسخ الثماني عشرة مع الجريدة (صدى لبنان)، صدى الحق والقوة، كم كان سروري بها عظيماً، لكن رؤية أم العيال عقب العملية الجراحية أسكت فيّ منافذ البهجة. سأعود إلى الجريدة، طبعاً، وأشكر كل من تفضّل فشكر لي جهدي المتواضع بكتابة ما أحسست به، وأنا أتصفّح بنبضات قلبي كلماتك، وأقرأ فيها المآسي وأصرخ معك على المجانين، حتى عدّوني واحداً منهم، وعلى ألأقل صنّفت مع أهل الغفلة فتصور؟..
وقبلت هذا الجنون والتحدي، وكأن الحياة دراهم وشيكات!.. قالوا: أتكتب هكذا؟.. قلت: أكتب هكذا، وفق خطي أنا لا خطكم.
وقالوا: أتقدم نتاجك إلى أستراليا ولا تدري ما الذي سيكون؟ قلت لهم: إني أعرف ما سيكون، إنها أمانة مرسلة من أخ إلى أخ أعز، عرفته عزيز الجانب، عرفته عزيزاً كريم لمحتد لأني قرأته لا كما قرأتم أنتم أشعاره، وعرفت مواقفه لا كما ادعيتم انكم تعرفون مواقفه وأهدافه.. كما عرفتها.
وكثر الجدل وطال بين مدّ يودون إغراقي بسوطة مميتة، وجزر يثبتون فيه أن الجحود بين البشر هو الأصل.. وتأخرت الدراسة إليك برهة من زمن، حتى أكملت النظرة الواثقة من أني قمت بواجب تجاه أخ عشت بشغاف قصائده، وأحسست بما بها، لا كما أحسوا وأرادوا، وكأن النتاج صفعة على وجههم.
وقلت لهم: سأرسلها.. فاستغربوا: أترسلها بدون عقد وربط؟ وقلت لهم: ستطبع على نفقة قائلها.. فاشتد استغرابهم. واطمأنت نفسي أنها سافرت إليك، قبيل سفري ورحلتي إلى هذا البلد.
فألف شكر لهذه النيات الطيبة التي جمعتنا، وللأهداف التي قوت إيماننا بالكلمة. وألف شكر لهذه الاسرة اللبنانية التي تفضلت بشكري، وقد حملتني مسؤولية البحث عن أسلوب أخوي، أود به أن أد على شكرهم، وليس لي سوى المزيد من الصلة الأخوية، والمزيد من المودة والوفاء، والمزيد من التخطيط لدراسات مستقبلية قادمة، نرفع بها كل نتاج إلى أفقه، فليقبلوني كلمة متواضعة على شفاههم.
ولصدى لبنان كل الامتنان، فملأت صفحة من جوانحها، وأنا الانسان المتواضع جداً، أبحث عن ظلال الزيتون والارز لأحتمي من لمعة شمس. فمنذ الخامس من الشهر الحادي عشر، ونحن ننتقل من مستشفى إلى مستشفى، فالأولى كانت مستشفى ميل، والثانية مستشفى ألاكسندريا، والثالثة فيفاكس.. الآن، وقبيل إجراء العملية أخذوا التواقيع تلو التواقيع، ليضمنوا التكاليف، إذ ليس هنا تأمين صحي إلا لمن يشترك بمؤسسات تكفل له النفقات، وأنا جئت إلى هنا في 28/9/1988. المهم.. أن امورها الصحية على خير، وقد أجرى لها العملية الجراحية الدكتور ماهر عقل من الحازمية، متخرج من الجامعة اليسوعية، وهات حديث عن لبنان وأحداثه، وأحداثه دماء لم تكن لتشفي غليل قاتل أو قناص مأجور، أو متهور مأفون.
لك أيها الأخ النجي أن تعذرني على تأخر رسائلي، ففي هذه الأيام أصحو الساعة الخامسة والنصف، لأستعد إلى الذهاب إلى الأكاديمية لتدريس اللغة العربية. فأنا موضوع تحت التجربة، أصلح للتدريس أم لا أصلح؟ تلك هي القضية كما قال شكسبير.
الراتب الشهري متواضع، وأكرم بالتواضع، وإذ لا يحق لي فرض أي شرط، ولم ينظروا إلى خبرتي بالتدريس بدءاً من المرحلة الابتدائية، إلى المتوسطة، إلى الثانوية، إلى الجامعة. الابتزاز وصل إلى هذه الدرجة، وأنا أقبل وأعرف، فلديّ ما يثبت التدريس بالمراحل الأولى، لكن تدريسي لطلاب الجامعة كان تدريساً خاصاً، فمنذ منحوني الإقالة من العمل باسم الاستقالة، وأنا أدبر شؤوني الخاصة. اعذرني كيف اشتطّ قلمي إليك بهذه الأمور، وأنا أتمنى أن نلتقي بأستراليا لأقوم بتدريس العربية وسواها من دروس النقد مع الأدب الحديث، لكن لا تقلق، واطمئن، مهما كانت الظروف. ولعلي أجد زاوية في كل أسبوع ارسلها إلى صدى لبنان، فما رأيك؟
لتعذرني الدكتورة سمر فقد تأخرت رسالتي عن كتابها (البيت في ساحة عرنوس)، وكل سطر عنها قد هيأته نفسي. بأقرب فرصة أرسل كلمتي عما خطته أناملها.. فعذراً.
سررت حين أبلغني أخونا نعمان حرب من أن فرع الحزب بالسويداء أقام له حفلة تكريم بمناسبة منحه جائزة جبران، وأن مجلس المدينة قد قرر تكريمه. إنه يستحق كل تشجيع، وكل تقدير، فهو الدؤوب على نشر القبسات. ولا أنسى يوم جاء مع ألأخ مدحة لتوديعي، وكانت لفتة كريمة منه ومن الأخ مدحة أن عرضا علي كل مساعدة ممكنة، وأنا الذي بعت غرفة نومي وثيابي وأدوات الطعام والكتب والأثاث حتى لا أمد يدي لأحد بقرض أو مساعدة أو.. أو.. بل كنت أوزّع ما اشتريته بعرق جبيني إلى من أجد عنده فضيلة التعفف.
لعلك لو تفضلت عليّ فأكرمتني بإرسال النتاج الأدبي والفكري الذي تخطّه القلوب المحبة للأدب وللإنسان ولله.
يا خيي شربل..
أنا ما كرهت يوماً أمطار بلدي، إذا عم قطرها كل يد تضرعت بعد جوع. ولا تأففت لحظة من رعودها لتحيي القلوب الصدئة. ولا خفت من زلازلها التي تمحو المستنقعات المنتشرة في غرف شهريار. ولا حبست أنفاسي من فيضان يبحث عن نوح، ومعه زوجان من كل كائن.. لكنني وجدت الانسان مغتالاً من الثقوب السوداء التي حفرت بأبواب ألأبنوس، لتقتل، لتصطاد، لتنهب، فبعد أن قتلت الروح احتلت المسكن شبراً ونهباً. والأغرب من هذا أنها ثقوب ترفع راية الثورة الفرنسية ، هذه الثورة التي هدمت الباستيل. لكن ثورات عديدة ما قامت إلا على قلاع من الباستيل، الباستيل المتحدث الرسمي باسم الحضارة المتخلفة. واعذرني خيي شربل كم تطول بنا الأحلام وتحلو، وكم يرهف الحس لدى سماع عصفور يعندل في زحمة القطب والصقيع.
وبانتظار أن تفتح لي زاوية متواضعة صدى لبنان، ولأقرأ فيها أبجدية ألاسبوع، أرجو أن يتقبل مني أبناء مجدليا في لبنان وأستراليا، وصحيفة صدى لبنان، ودار راليا للطباعة، ورابطة إحياء التراث العربي، وكل أصدقاء الشاعر شربل، طبعاً هم أصدقائي، كل التقدير والاحترام، وأن يصدر لي عفوهم عن عبارة ألأديب الكبير، فحسن ظنهم بي، وثقتهم بي، ومحبتي لهم، عربون وفاء على مدى الأيام..
عدت الآن من المستشفى مساءً الساعة الثامنة، عقب انتهاء عملية زرع الأوردة المغذية للقلب، وكانت الأحوال جيدة ولله الحمد، ولأسمع دعواتك لها بالشفاء وعودة الصحة.
واسلم لأخيك خيي شربل
محمد زهير الباشا
**