جريدة العالـم العربي تحاور الشاعر شربل بعيني/ نوال صوما

إعلامية مهجرية عملت في جريدة العالم العربي ـ سيدني

   يتكلّم ببراءة الأطفال، بصدقهم وعفويتهم. لا يحبّ المقابلات الصحافيّة، لأنّها برأيه تعرّيه من أسراره، وتجعله يتفوّه بأشياء لا يريد التفوّه بها.
   هو صاحب مجموعة دواوين شعريّة قاربت العشرين حتّى الآن، منها: مراهقة، مجانين، قصائد ريفيّة، رباعيّات، الغربة الطويلة، مناجاة علي، أللـه ونقطة زيت وغيرها، والخير لقدّام.
   إنّه الشاعر شربل بعيني.
   أسلوبه سلس يدغدغ أعماق النفس الساكنة، صوره صادقة فيها المتعة وفيها الرّعب. إنه ليس صاحب نظريّة يطرحها على المجتمع، إنّما هو مسجّل لما تعاني منه الإنسانيّة في محنها وشدائدها من ظلم وابتزاز "وقرف".
   وقد كان "للعالـم العربي" الحوار التالي مع الشّاعر بعيني:
البداية الشعريّة:
ـ متى أتيت إلى أستراليا؟
ـ أتيت إلى أستراليا في الحادي والعشرين من شهر كانون الأوّل 1971، أي ما يقارب الإثنتين وعشرين سنة.
ـ أستاذ شربل.. ماذا علّمتك الغربة كإنسان أوّلاً، وهل تدين لها كشاعر ثانياً؟
ـ لقد علّمتني الغربة أشياء كثيرة، وأهم شيء علّمتني إيّاه هو كيفيّة الصبر على الغربة أوّلاً، وكتابة الشعر ثانياً. قبل هجرتي إلى أستراليا، كنت شبه أمّي في مدرسة الشعر، فصقلتني الغربة شعرياً، وجعلتني أؤمن بأن الكتابة فعل عطاء، وهي الوحيدة القادرة على إيجاد الوطن.
ـ ما هي أولى كتاباتك التي ولدت في لبنان؟
ـ لقد صدر لي في لبنان كتابان، الأول "مراهقة" في العام 1968، والثاني "قصائد مبعثرة" في العام 1970، وهذا الأخير كان السّبب في تهجيري، كي لا أقول: في هجرتي. ويعتقد بعض النقّاد أنني عانيت الحرب اللبنانيّة من خلال ديوان "قصائد مبعثرة" قبل اندلاعها بسنوات.
ـ لقد تنبّأ شربل بعيني في ديوان "قصائد مبعثرة" عن الحرب اللبنانيّة، إن في شرحه للحزن والخوف، أو في وصفه للخراب والدّمار، وقد صدقت نبؤته، كيف ذلك؟
ـ إن معظم الشعراء يتمتّعون بحاسّة سادسة يستشفّون منها المستقبل، وأعتقد أن حاسّتي السادسة قد أوحت إليّ بذبذباتها الخاصّة كلّ ما كتبته حول الحرب اللبنانيّة. ويكفي أن أذكر هذا المقطع الشعري كي تعلمي كم كانت حاسّتي صادقة:
الخراب يزحف نحو المدينه
يخترق جدار الصّمت والسّكينه
والطّيور الشّارده
في الليالي البارده
ترتّل التراتيل الحزينه.

الشاعر المحامي:
ـ إذا أردنا العودة إلى الوراء، إلى دراستك في لبنان..
ـ في الحقيقة لقد حرمت، بسبب كتاباتي، من إتمام حلمي الدراسي، ألا وهو دراسة المحاماة. ولكنّني مع الوقت، وجدت نفسي أتقمّص بالشعر ثوب المحاماة، لأدافع عن أبناء شعبي المقيمين والمغتربين. وكما قال أحد النقّاد: "لقد نجح شربل بعيني في الشّعر كي ينجح في المحاماة".
   عند مجيئي إلى أستراليا، عملت، كملايين المغتربين، في المصانع الأستراليّة، وأول عمل لي كان عتّالاً أو حمّالاً، وقد تعرّضت من وراء هذا إلى حادث كاد يفقدني إصبعي، مما أدّى إلى تركي العمل في المصنع، وخوضي غمار التجارة. فأسست عام 1974 شركة، أطلقت عليها اسم "صوت الأرز"، لتسجيل الأشرطة الغنائيّة العربية، وكانت أول شركة من نوعها في ذلك الوقت، ومنها أصدرت جريدة "صوت الأرز" التي تحمل اسمها، أي اسم الشركة.
   إثر اندلاع الحرب اللبنانية، وفي العام 1976 بالذات، أصدرت ديوان "مجانين"، أول ديوان شعري باللغة العربية يطبع في أستراليا، وقد صدرت منه حتى الآن ثلاث طبعات.
ـ هل من سبب أساسي، أستاذ شربل، يحملك على تسمية الشركة والجريدة بالاسم نفسه "صوت الأرز"؟
ـ السبب في تسميتي للشركة والجريدة باسم واحد "صوت الأرز"، يعود إلى انتمائي اللامحدود لذلك الأرز الشامخ فوق جبل لبنان. وكأنني أردته أن يصاحب رحلتي المهجريّة ليخفّف عنّي، بجبروته، بعض أتعابها.
ـ يدافع المحامي عن المجرم في المحكمة، ويدافع شربل عن شعبه المتّهم، هل تمكّنت من المدافعة عنه في محكمة الشعر، وكيف؟
ـ لـم أدافع عن شعبي المتّهم، لقد دافعت عن شعبي المظلوم، المهضوم الحقّ، وعن أمّتي المضطهدة. كنت أنبّه الجميع من "زعرنة" السياسيين الذين يجسّدون بتصرّفاتهم الدنيئة شخصيّة دراكولا، التي تخيفنا في أفلام الرعب السينمائيّة. إنهم يمتصون دماء نا ودماء أبنائنا من أجل لذّة عابرة قد لا تدوم أكثر من لحظات.. هذا ما كنت أريد أن أوصله إلى شعبي.
.. وكاتب المسرح:
ـ شربل الشّاعر عرفناه من خلال نغمات قصائده الشّعريّة، أخبرنا عن شربل الأستاذ وكاتب المسرح؟
ـ شربل، الأستاذ في مدرسة سيّدة لبنان، هو الذي أوجد شربل المسرحي. لقد لاحظت، من خلال عملي في مهنة التدريس، ازدواجيّة في اللغة العربيّة، بين الفصحى والعاميّة، وكنت أتساءل: كيف يمكنني تدريس الفصحى لأطفال مولودين في أستراليا، وهم يجهلون التكلّم باللغة العاميّة. وقد استطعت اجتياز هذا الحاجز بالمسرح، إذ أن المسرح يحبّب اللغة المحكيّة لأبنائنا المغتربين، الذين يتكلّمون الإنكليزيّة كلغة أولى، وللأسف، فإن معظمهم يخافون النطق بلسان أمهاتهم، وقد يعمل المسرح على تقريب اللغة المحكيّة هذه إلى أفواههم، وتنمية شخصياتهم، وصقل مواهبهم، فأصبحت هذه الأقانيم الثلاثة فعل عطاء لغوي لا محدود. 
ـ هل أن جميع كتبك الشعرية مترجمة إلى لغات أخرى غير العربيّة، أو البعض منها؟ وإلى أيّة لغات؟
ـ لقد تُرجم إلى الإنكليزيّة ديواني الأخير "مناجاة علي" 1992، وقد قام بترجمته كل من الأساتذة ناجي الوصفي، جو اليمّوني وإيلي شعنين، وتقوم جريدة "العالـم العربي" بنشره على حلقات. كما ترجمه إلى الفرنسيّة الأستاذ عبد اللـه خضر، وإلى الإسبانيّة الأستاذ إبراهيم سعد، وهناك من يترجمه إلى الروسيّة والبلغاريّة. أمّا الدكتور آميل الشدياق، فقد انتهى من ترجمة "رباعيّات"، الذي سيصدر عمّا قريب بإذن اللـه، وتقوم، حالياً، الشاعرة الأستراليّة آن فيربيرن بترجمة ديواني الجديد "قصائد أسترالية".
ـ من قصائد مبعثرة إلى قصائد ريفيّة إلى قصائد أستراليّة، لماذا القصائد أستراليّة هذه المرّة؟
ـ قصائد هذا الكتاب تدور في معظمها حول جغرافيّة أستراليا وحياتنا فيها، وسأجمع، في هذا الكتاب، قصائدي العربيّة وترجمة آن فيربيرن الإنكليزيّة.
الشعر غنائي الأبوين:
ـ يستلهم الشعراء مناسبة قصائدهم من منظر الشمس الغاربة وراء الأصيل، أو الخيل الجامحة في البراري، أو هم يتغنّون بشعر الحبيبة وعنقها. من أين يستلهم شاعرنا قصائده؟
ـ الناس هم الذين يفرضون على الشعر وجودهم، فالشاعر، حين يعايشهم، يستمدّ منهم قُوتَه الشعري، الذي يوزّعه عليهم بعد تعليبه، أو يبقيه لنفسه. أمّا أنا فلقد وزّعته ورددت لهم فضلهم وكلماتهم بأسلوبي الخاص.
ـ قصائدك الشعريّة تجمع بين الأبيض والأسود، تارة نحسّها نغماً يتراقص أمام أعيننا، وطوراً تستتر بمعان تنطوي على بركان ما؟
ـ الشعر لا يتغيّر، إذا انكشف أو استتر، فهو غنائي الأبوين، نغماته تتراقص على شفاهنا من خلال إيقاعاته المموسقة. إذاً، لا خوف فيه إذا رقص، كما لا خوف منه إذا انفجر. فالشعر يبقى شعراً، ورسالته يؤدّيها بالطريقة التي تحلو له. طبعاً إذا كان صادقاً مع نفسه ومع قرّائه.
شربل والفكر الديني:
ـ لقد شكّكت في ديوان "اللـه ونقطة زيت" بحكايا دينيّة جوهريّة واعتبرتها خرافات؟
ـ كشاعر، لي كامل الحقّ بأن أفكّر وأصوّر وأوضّح كل ما ترفضه مخيّلتي. قد أكون على صراع مع الفكر الديني، ولكن، هذا لا يعني أنني أحاول أن أفرض رأيي على الآخرين. ما قلته في ديوان "اللـه ونقطة زيت" أؤمن به، وأعتقد أن الكثيرين يؤمنون إيماني. أما من ناحية التشكيك، فاسمحي لي بأن أقول بأنه نابع من إيماني القوي باللـه تعالى، وأن الخرافات لا تحدّ عظمته، والكلمات جاءت من ينبوع محبّته.
ـ بعد أن نجحت تجربتك النثريّة الأولى في كتاب من "كل ذقن شعرة"، وأصبحت شخصيّة الكاتب جزءاً لا يتجزّأ من شخصيّة شربل الشاعر، لماذا لـم تكرّر المحاولة؟
ـ أشكرك على إطرائك الذي دغدغ غروري بعض الشيء، ولكن، صدّقيني إذا قلت لك إن شربل الشاعر قد تغلّب بالضربة القاضية على شربل الناثر. يلذّ لي، في أحايين كثيرة، أن أكتب النثر. ولكن، عندما أخيّر بين نشر ديوان شعري أو كتاب نثري، أختار الأول، فأنا والشعر صنوان.
ـ وماذا عن الكتب المدرسيّة، هل تصبّ في خانة الشعر أو النثر؟
ـ معظم كتبي المدرسيّة تجمع بين الشعر والنثر، فمن الواجب تطعيم الكتب المدرسيّة بنفحات شعريّة يستسيغها الأطفال، ويردّدونها بين الفينة والفينة، وقد لا أذيع سرّاً إذا قلت بأن وزارة التربية الأسترالية هي التي تبنّت وتتبنى نشر كتبي المدرسيّة وتوزيعها في أستراليا، وقد أصبحت حتى الآن حوالي ثلاثة عشر كتاباً.
قرف:
ـ يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره. قرأت لك، أستاذ شربل، قصيدة "قرف"، فوجدتها تتسلّح بكلمات جريئة قد يخافها البعض، ما هو السبب؟
ـ عندما أحرق اللـه "سادوم وعامورة"، كان يعيش حالة قرف مزرية، أجبرته على صبّ جام غضبه كبريتاً أحمر على البنيان والإنسان. هذا إذا كنت تؤمنين بقصّة "سادوم وعامورة"؟
ـ هل أنت تؤمن بها؟
ـ إنني أستشهد بها فقط. أمّا الإيمان فهذا شأني الخاص، وكلّنا على علم ويقين بعظمة اللـه تعالى ومحبّته وحنوّه وغفرانه، ومع ذلك لـم أحرق الكفر بحرقه لأصحابه. فإذا كنّا على صورة اللـه ومثاله، فمن حقّنا أن نصبّ جام غضبنا على من يزرع الكفر في أوساطنا؟. و"قرف".. كانت غضب شربل بعيني، قد يرفضها البعض، لا لشيء، سوى لأنها تذرّ الرماد في عيونهم وتكشف عوراتهم، أما الصادقون فهم المعجبون المتلذّذون "بقرف" الشعراء.
العالـم العربي، العدد 34، 9 تمّوز 1993.
**