مقدّمة كتاب: شربل بعيني الملك الأبيض/ د. علي بزّي

صاحب كتاب: كلمات سريعة عن شربل بعيني
فاز بجائزة شربل بعيني
علّمونا في مدارس أيام زمان عن أدب الرحلات، وأدب الرسائل وما شابه، ولم يدر بخلدهم أننا سنصل إلى يوم نعلّم به أطفالنا عن أدب التعليقات.
أجل، أدب التعليقات.. وخير دليل على ذلك هذا الكتاب الغارق حتى نقطه وحركاته بالنثر البديع، والشعر الرفيع.
وها أنا أطلعكم على حبيبات قليلة جمعتها عن بيدر (العيّادي) المتخم بخيراته، علّني أعطيكم ولو لمحة بسيطة عن أدب قد يبدأ ساعة صدور هذا الكتاب، ومن يدري فقد يغيّر شكل التعليقات التي نقرأها، ونشمئز منها، ونشفق على أصحابها لتفاهة معظمها، لدرجة أن العديد من أصحاب المواقع يسارعون الى التخلص منها كما نتخلّص من نفاياتنا كي لا تزكم الانفاس أو تنشر الجراثيم. أولئك الذين عناهم العيادي حين أبدع:
كثيراً ما أطرق أبواب نصّك العديدة،
لأستريح من نزق الريح،
وفساد السرد المليء بالغبار،
وبما هو صالح وطالح،
وكنت دائماً مطمئناً إلى أنني واجد
في حدائقك من الأرض
ما يكفي لأرى السماء صافيّة.
فهو، إذن، لا يرى السماء صافية إلا بالسرد الصالح الخالي من الغبار. كيف لا، وهو الذي أبى أن ينزف قلمه، أينما كتب وحيثما كتب، إلا الدرر، فأضحى الرائد في عالم أدب التعليقات:
أنا المكوّر كاللوز الفج
خاتم رسائل حبّه..
...
آيتي الليل والقمر ورجع الأنين..
...
أنا الذي يفكّ القيد ويرفع حرج النساء.
أنا خشب الصندل المعطّر بريح السفن القديمة.
...
هذا الربيع ليس له علامة..
ربما كذبت كل الفراشات
وربّما كذب الخطّاف ثانية..
...
وحدهم الشعراء لا يموتون
...
أنا أحييه متعمّداً ألاّ يرى من وجهي إلا نصفه المبتسم.
بربكم، هل هذا كلام تعليقات؟!
اسمعوه إذن حين يمدح:
نبلك يغرقني في لجة من الغبطة والزهو.
حقّ لمثلي أن يتطاول بمثلك.
أو حين يعضد:
غابة حزنك مثمرة أشجارها،
وتغري كل مساء بالتوغل فيها من جديد.
أشدّ بكل حبّ وفهم وقوّة على يديك،
راعياً جديداً،
يقشّر بثُور الزمن بصوت نايه،
ويحدّث العشب عن نزق الأشجار التي تحلم بالرحيل..
وقد تفعل.
أما إذا أراد أن يعايد فيترك (للزوّار حرية التجول بين الفوانيس، والتلاقي عند مداخل أبواب المحبة السبع).. إلى أن يلقي قنبلته الوردية:
سنة شربلية بكل ما في الإسم من معنى يفيض ويضوع منك عليه.
أمام هدايا كمال العيادي يصمت جميع أمراء الكلام وملوكه:
إسمع، هذا ما تبقّى، خذه: سور القيروان الشرقي!
وأمام شكره يرتجفون أيضاً، إذ أنه لن يرضى بأقل من هذه العبارة الملكة:
شكراً أيها الملك الأبيض.
بعد هذا، أصبحت على يقين من أن حاتم الطائي تونسي المنشأ.
أصدقاؤه خط أحمر، والويل ثم الويل لمن يتطاولون عليهم، فلسوف يضرب الجبان منهم كي يخرّ أمامه الصنديد:
القردة قردة،
والجرابيع جرابيع،
والأسود أسود،
كل يعوج على طبعه.
فكمال الأديب ليس كباقي الأدباء، إنه (الجوّال بين أودية الكلمة المعتّقة) لا يطمع من (سقط الدنيا بغير بعض قلب مما تحمله أنت).
أف، كم أنت محظوظ يا شربل بعيني بصحبة كمال العيادي، فلقد بدأت أغبطك عليها، فمن غيره يحلّق بقلب الشاعر كي يطرد (الجعلان من سياق اللغة، ومن مزارع المساجد والكنائس).
من غيره أقسم أن لا يزيح قيد أنملة قبل أن يحقق هذا الهدف، لأن اللغة (أرض كل شاعر لا يخون).
عظمة كمال العيادي ليست برونق لغته، ولا بسلاسة أسلوبه، بل بتواضعه الجمّ، رغم مقدرته الأدبية، ومن غيره يتجاسر على قول ما قال لشربل:
عجبك أنني أخرج من كل معركة منتصراً، فسببه أنني أتعلّم منك، ومن الكبار أمثالك من الكتّاب.
قليلون جداً هم الكتّاب الذين يعترفون بالتلمذة الدائمة، فلقد أصبحوا، أو هكذا تخيلوا، عباقرة زمانهم منذ الخرطشة الأولى، كي لا أقول: الشخبطة.. 
شخبط شخابيط، وأتّهم بسرقة أغنية نانسي عجرم.
لله درّك يا ابن تونس، فلو تابعت الاستعانة بكلماتك لما كتبت كلمة واحدة من عندي، إذ أنها تسحرني، وتشدني الى الاستعانة بها دون إدراك مني، وها أنا أهديه ما أهدانا:
إنّك ملاّح بين قلّة،
يعيد فتنة العبارة،
وأنوثة البحر،
لبيت الشعر الصافي.. شعر الينابيع.
لو شئت لكتبت كتاباً في شرح هذه التعليقات، ولكنني سأكتفي بهذا القدر كي لا أؤخركم عن الاستمتاع بها، كونها البداية لأدب إلكترونيّ جديد، يقدر أن (يستحيل النور والضوء معاً).
كمال العيادي.. شربل بعيني.. ألف شكر لكما.
**
مقدمة كتاب: غنّوا يا أطفال
    قبل أن تقرأوا هذه الأغنيات التاريخية الجميلة، عليكم أن تعرفوا أن آلاف الأطفال في معهد سيدة لبنان ـ هاريس بارك ـ سيدني ـ أستراليا قد غنّوها في احتفالات مدرسية مختلفة. وقد نشر شربل أغنياتهم الوطنية في مجموعة ثانية أسماها "لبنان بس". وقد لا أذيع سراً اذا قلت أن الكثير من هذه الأغنيات قد ضاع لسبب مؤسف لا داعي لذكره.
   كما عليكم أن تعرفوا أن هؤلاء الأطفال ولدوا في بلاد كل ما فيها ينطق بالانكليزية، فجاء شربل بعيني ليزرع على شفاههم لغتهم الأم بطريقة مبتكرة، إذ أن لا شيء مثل المسرح والأغنيات يعيد إليهم ما فقدوه من نطق بهذه اللغة.
   قد يقول البعض ان لا قيمة ادبية لهذه الاغنيات، والحقيقة ان قيمتها الادبية لا حدود لها، إذ انها تكمن في قيمتها التربوية والمعنوية والانسانية والتاريخية، خاصة وانها تؤرخ لاكثر من ربع قرن من حياة المعهد، وتسلط الاضواء على شخصيات مهمة استقبلهم الاطفال، كما تبيّن مدى اخلاص ومحبة ووفاء هذا المعلم الكبير لراهبات العائلة المقدسة، ولمعهدهن الذي وهبه عصارة نبوغه الفكري، وأهداه اجمل سني حياته.
   لقد مرّ شربل بعيني في معهد سيدة لبنان كمارد قطف ثمار شجرة المعرفة وأطعمها للصغار والكبار في آن واحد. فتارة يقدّم لهم ثمرة الشعر والغناء، وتارة أخرى ثمرة الكتب المدرسية والتعليم الحديث الراقي، وطوراً ثمرة المسرح الطفولي الذي أبدع به بشهادة كل من شهد للحق.
   وعندما استقال شربل من مهنة التعليم في المعهد، حدث لغط شديد في أوساط الجالية، مفاده أن من كرّم جميع الراهبات وأهداهن أجمل الأغنيات لم ينل نصيبه من التكريم، فإذا به ينشر على غلاف الطبعة الثانية صورة تكريمه من قبل الرئيسة أيرين بو غصن، مع صور أخرى، ليدافع عن أعز الناس على قلبه: راهبات العائلة المقدسة.
   لقد التقيت بكثير من المعلمين الذين مروا على صفحة الحياة دون أن يذكرهم أحد، ولكن شربل بعيني مرّ فخَلَّد وخُلِّد، وخير دليل على ذلك ما سوف تستمتع به أعينكم من قصائد.
   سؤال لا بد من طرحه: هل سيمر في معهد سيدة لبنان شربل بعيني آخر؟ أتمنى ذلك.
**
الحكمة في ديوان "فافي" لشربل بعيني
كُتب الكثير عن ديوان شربل بعيني الجديد "فافي"، ولكن أحداً لم ينتبه الى الحكم المنثورة في الديوان كأنجم في سماء صافية، فإذا أخذنا مثلاً عبارته: 
"صمت الرجل يركّع جبلاً"
وبدأنا بتحليلها، لوجدنا أن الرجل الصامت في الملمات هو أكثر الرجال تأثيراً في مجتمعه، كونه "يشغّل" العقل وليس اللسان. 
ألم يركّع صمت "أبي الهول" التاريخ؟ 
ألم تردد الأجيال هذا المثل الشعبي الشهير: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب؟
إذن.. فالرجل الصامت هو الرجل الأقوى، وهو الأكثر ثباتاً في موقفه، وقد تنهار الجبال ولا تنهار كلمته، لأنه لم ينطقها بعد.
ناهيكم عن باقي التفسيرات التي قد تأخذ وقتاً طويلاً من التحليل، نحن بغنى عنها في مقال قصير كهذا.
فاطمة ناعوت، كما هو معروف، شاعرة مصرية كبيرة، تركت الكثير من المؤلفات، لذلك خاطبها شربل بعيني كشاعرة، قبل أن يخاطبها كامرأة، فقال في قصيدة "وطني": 
"الشعراء يتنفسّون برئة واحدة 
فإن تألّم أحدهم تألّم الجميع".
وبهذه الحكمة تمكن شربل من ان يتقرّب أكثر فأكثر من فاطمة "فافي"، إذ دمج رئته برئتها وراحا يتنفسان معاً برئة واحدة، فإن تألمت تألّم.. وهذه تضحية نادرة لا يقدم عليها سوى شاعر مجنون.
وفي نفس القصيدة يقول أيضاً:
"إنتبه..  كلمتك لا تموت."
أجل، علينا أن ننتبه كثيراً، خاصة عندما نكتب أو نتكلّم، فكل كلمة نكتبها أو ننطقها سنحاسب عليها، ومن يدري فقد يلعننا التاريخ بسببها.. وهنا الطامة الكبرى.
وأعتقد جازماً أن شربل بعيني قد نفّذ هذه الحكمة بحذافيرها، فما من ديوان نشره إلا وأحدث ضجة أدبية، ابتداءً من "مراهقة" 1968، مروراً بـ "مناجاة علي" 1991، و"قرف" 1993، وانتهاء بـ "فافي" 2013، 41 مجموعة شعرية ونثرية أهداها شربل للتاريخ، فكُرّم على كلمته عشرات المرّات، وكان لي نصيب كبير في الاعداد والمشاركة بتكريمه. راجعوا أفلام تكريمه المنشورة على اليوتوب.
وفي قصيدته "مقعد في غربتي" يصيح شربل بعيني بصوته الجهوري حكمة ولا أجمل يتساءل فيها: 
"كيف أرتقي سلالمَ العشق 
وأنا مُقعدٌ في غربتي؟"
ليصور، بمرارة ما بعدها مرارة، حالة كل مغترب منّا.. فالغربة في نظره شلل كامل يصيب المرء فيقعده عن كل شيء، حتى عن الحب.. فتصوّروا!
أما في قصيدته "سراب" فيرمي شربل درره على الورق، كما ترمي الشجرة ثمارها على الثرى ليلتقطها الجائعون، فيجمع الأضداد في ثلاث عبارات فلسفية سريعة:
"الوردةُ تعشق الشوك، 
الشمسُ تلازم الصحراء، 
والنجمة تسامرُ الظلام!"
وما علينا سوى أن نحللها كل على مزاجه.
ولكي لا ينتهي حبّه الأخوي لـ "فافي" كما انتهى حب جبران لمي زيادة، نسمعه يصيح والغصة تخنقه وتخنقنا في آن واحد:
"ما أصعبَ أن يعيش الشاعرُ
في عصر المستحيلات.
ما أصعب أن يتعذّب الشعراء."
وفي قصيدته "المجنونة" يفلسف شربل السلام بطريقته الخاصة فيقول:
"المواطن بلا سلام، كلاجىء بلا وطن".
فالسلام بنظره هو أساس كل شيء، والوطن الخالي من السلام، يتحوّل فيه المواطن الى لاجىء، رغم وجوده داخل الوطن. وهذا ما حدث ويحدث معنا جميعاً في  اوطاننا العربية التعيسة.
وها هو يثبت كلامه بفلسفة أخرى تتبع الأولى كظلّها:
"كرامة الوطن من كرامة المواطن"
ومن يعترض على هذا القول فليرفع إصبعه.
أخيراً.. أعجبني تشبيه شربل لانسياب أسلوب فاطمة ناعوت الأدبي بانسياب الحب في قلوب العشّاق، وهل أجمل من هذا الانسياب؟
ثم أعجبني وطن الكلمة في قصيدة "وطني" الذي سكناه معاً لتحوّله فاطمة الى وطن للجميع.
كلام كهذا لا يأتي من الفراغ.. انه يتوالد من تفاعل الشعراء مع بعضهم البعض، ولو لم يكن هناك تفاعل أدبي بين شربل بعيني وفاطمة ناعوت لما تنعّمنا بكل هذا الجمال الادبي الخلاق. 
تحيتي لهما
**