بنت جبيل تكرّم الشاعر شربل بعيني/ رفيق غنّوم

مؤلف كتاب: أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني
   أبناء بنت جبيل، البلدة الجنوبيّة الصّامدة، أمّوا دار الشاعر شربل بعيني، مساء السبت الماضي، لتقديم الشكر له على قصيدته الخالدة "قرف".
   وكم كانت فرحتهم عظيمة عندما وجدوا في استقبالهم نخبة من كبار أدباء وشعراء ومثقّفي المهجر الأسترالي الأحرار.
   تـمّ التعارف بين الجميع، وساد اللقاء جوّ مفعم بالودّ والمحبّة، كأنّهم أصدقاء قدامى. ومن ثَـمَّ وقف الدكتور قاسم مصطفى، رئيس جمعيّة أبناء بنت جبيل، وطلب من الحضور المعذرة، ليقدّم لحبيب الشّعب الشاعر المجدلاوي شربل بعيني لوحةً نحاسيّة، تمثّل المركب الفينيقي، الذي حمل الحرف والحضارة إلى العالـم أجمع.      
   وفي كلمته المختصرة قال الدكتور مصطفى: "إن قصيدة قرف إكليل غار يتوّج رؤوس أبناء بنت جبيل المقيمين والمغتربين".
   كما قال الدكتور علي بزّي: "إن أبناء بنت جبيل باتوا يردّدون قصيدة "قرف" عن ظهر قلب، لأنها تعبّر عن واقهم الأليم".
   أما الدكتور خليل مصطفى فقد سمّى هذا الزّمن بزمن القرف، نسبة إلى القصيدة الإنسانيّة الرائعة.
   كما قدّم السيّد صعب سبحة عاجيّة للشاعر شربل بعيني، صنعت في بنت جبيل، وجرت في اللقاء مداخلات سياسيّة وأدبيّة كثيرة، بين الشاعر نعيم خوري وأبي طارق وإيلي ناصيف من جهة، والدكتورين قاسم وخليل مصطفى وكامل المرّ ورفيق غنّوم من جهة ثانية، أجمعوا فيها على أن الشّعب العربي يعيش حالة من القرف، قد توصله إلى مرحلة الإحباط اليائس، لولا يقظة الشرفاء من الشعراء والأدباء والمفكّرين، الذين ينادون بالتمرّد والثورة لتغيير واقعنا المقرف.
   بادرة بنت جبيل تجاه الشاعر شربل بعيني، جاءت عربون وفاء للكلمة الحرّة الهادفة، التي تذكي فينا شعلة الثورة والانتفاضة لبناء غد مشرق وضّاء.
البيرق، العدد 684، 31 تمّوز 1993
**
كلمته يوم تكريم شربل بعيني
    أَيُّهَا السيِّدَاتُ والسَّادَة..
   أَيُّهَا الْمُغْتَرِبُونَ الْكِرَام.. يا أَبْنَاءَ الأَرْضِ الطَّيِّبَة..
   هَا هُوَ الْجَنُوبُ اللُّبْنَانِيُّ يَفْتَحُ الْيَوْمَ ذِرَاعَيْهِ لاسْتِقْبَالِنَا.. 
   هَا هِيَ الأَرْضُ الْمُحَرَّرَةُ تَدْعُونَا اللَّيْلَةَ لِلْمُشَارَكَةِ بِتْكِرِيمِ مَنْ كَرَّمَ الأَرْضَ وَالْحُرِّيَّةَ وَالأَحْرَار.
   أَمَا لَيْسَتْ رَابِطَةُ الْجَمْعِيَّاتِ اللُّبْنَانِيَّةِ فِي السّانْت جُورْج، أَي الْقِدِّيس جِرْجِسْ، تُمَثِّلُ ذَلِكَ الْجَنُوبَ الْبَطَلَ، الَّذِي مَحَا الذُّلَّ عَنْ جَبِينِ أُمَّتِنَا الْعَرَبِيَّةِ، يَوْمَ ارْتَفَعَ بَيْرَقُ نَصْرِهِ، وَارْتَفَعَتْ هَامَاتُنَا بَعْدَ إِذْلاَل؟.
   وَهَا هُمْ أَبْنَاءُ الْجَنُوبِ يَفْتَحُونَ الْقُلُوبَ قَبْلَ الدِّيَارِ لِتْكِرِيمِ شَاعِرٍ شِمَالِيٍّ أَهْدَتْهُ "مِجْدَلَيَّا" لِلْكَلِمَة، لِلْغُرْبَة، لِلإِنْسَانِيَّة، وَلِلْمُعَذَّبِينَ فِي الأَرْض. ولأنَّ الْجَنُوبَ يَضْرِبُ، دَائِماً وَأَبَداً، ضَرْبَةَ مُعَلِّمٍ، كما يَقُولُ الْمَثَلُ الشَّعْبِي، هَا هُوَ يَضْرِبُ عُصْفُورَيْنِ بَحَجَرٍ وَاحِدٍ، فَيُعَيِّنُ تَكْرِيمَ الشَّاعِرِ شَرْبِل بْعَيْنِي فِي الْعَاشِرِ مِنْ شَهْرِ شُبَاط.. أَيْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي رَأَى فِيهِ النُّورَ عام 1951.. وَمَنْ يَحْسُبُ جَيِّداً، يُدْرِكُ أَنَّ الشَّاعِرَ سَيُطْفِىءُ اللَّيْلَةَ شَمْعَةً ذَهَبِيَّةً فِي عِيدِ مِيلادِهِ الْخَمْسِينْ. أَطَالَ اللـهُ بِأَعْمَارِكُمْ لِيُطِيلَ بِعُمْرِ شَاعِرِنَا الْمَحْبُوب.
   منذُ عِدَّةِ أَشْهُرٍ مَنَحَ الْمَجْلِسُ الْقَارِيُّ لِلْجَامِعَةِ الثَّقَافِيَّةِ فِي الْعَالـمِ ـ فَرْعُ أَمِيرْكَا الشِّمَالِيَّةِ، الَّذِي يَرْأَسُهُ الأَدِيبُ الْمَعْرُوفُ جُوزِيف حَايِكْ، لَقَبَ "أَمِيرِ الأُدَبَاءِ اللُّبْنَانِيِّينْ فِي عَالَـمِ الإِنْتِشَارِ لَعَام 2000" للشّاعِرِ شَرْبِل بعيني. فَاهْتَزَتْ قُلُوبُنَا فَرَحاً، وكَيْفَ لا تَهْتَزّ، وَمَنِ اخْتِيرَ أَمِيراً للأدَبِ الإِغْتِرابِي فِي عَالَمِ الإِنْتِشَار، هُو وَاحِدٌ مِنَّا، مِنْ جَالِيَتِنَا، مِنْ مَهْجَرِنَا الأُسْتُرالي.. هُوَ وَاحِدٌ مِنْ رُسُلِ الْحُرِيَّةِ عَلَى الأَرْضِ. فَفِي كُلِّ حَرْفٍ كَتَبَهُ نَجِدُ الْحُرِيَّةَ تَشْرَئِبُّ.. تَنْتِفِضُ.. تَثُورُ.. غَيْرَ عَابِئَةٍ بِمَا قَدْ تَجُرُّهُ مِنْ مَشَاكِلَ لِشَرْبِلْ.
   أريدُ أَنْ أَسْأَلَكُمْ سُؤالاً بِسِيطاً: لِمَاذَا تَنَادَيْتُمْ لِتَكِرِيمِ شَربل بعيني، لَوْ لَمْ يَكُنْ صَوْتُهُ صَوْتَكُمْ.. وَصَرْخَتُهُ صَرْخَتَكُمْ.. وَقَصَائِدُهُ قَصَائِدَكُمْ؟.. إِنَّهُ شَاعِرُ قَبِيلَتِكُمْ الإغْتِرَابِيَّةِ، كَيْ لا تَنْسَوْا جَريِرَ والْفَرَزْدَق.. إِنَّهُ إِبْنُ غُرْبَتِكُمْ، كَيْ لا تَنْسَوْا وَطَنَكُمْ الْمُفَدَّى.. إِنَّهُ إِبْنُ وَطَنِكُمْ، كَيْ يَبْقَى لَكُمْ الْوَطَن.. إِنَّهُ إِبْنُ لُبْنَان.. وَكَفَى.
   صَدَاقتي الْحَمِيمَةُ بِشَربل بعيني، عَرَّفَتْنِي بِهِ أَكْثَرْ.. حَمَلَتْنِي إِلَى عَالَمِهِ الْمَجْهُولِ، فَوَجَدْتُهُ كَعَالَمِهِ الْمَنْظُورِ.. تَقْرَأُ فِي عَيْنَيْهِ مَا يُخَبِّىءُ فِي قَلْبِهِ.. فشربلُ الشَّاعِرُ هُوَ ذَاتُهُ شَرْبِلُ الطِّفْلُ.. قُوَّتُهُ فِي بَرَاءَتِه.. وَجَمَالُهُ بِضَحِكَاتِهِ.. وَعَظَمَتُهُ بِارْتِفَاعِ صَوْتِهِ.. أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِل:
عَالِي صَوْتِي عَالِي
يَا وَطَنِي الْجَرِيحْ
عَمْ يِهْدُرْ بِاللَّيَالِي
اللِّي مْجَرَّحَه تِجْرِيحْ
وِيْخَرْطِشْ إِسْمَكْ صَورَه
عَ إِيدَيْن الْمَعْمُورَه
وِيْلَوِّنْ فِيك الرِّيحْ
    ومَنْ غَيْرَ الشَّاعِرِ شَرْبِل بعيني يَقْدِرُ عَلَى تَلْوِينِ الرِّيَاحِ، وَتَسْخِيرِهَا لِمَصْلَحَةِ وَطَنِهِ الْمَجْرُوحِ لُبْنَان.
   يَوْمَ عَلِمَ المُنَاضِلُ الْوَطَنِي الدكتور رِفْعت السَّعِيد بِاخْتِيَار صَدِيقِه شَرْبِل بعيني أَمِيراً لِلْكَلِمَةِ، أَرْسَلَ لَهُ فَاكْساً مُسْتَعْجِلاً مِنَ الْقَاهِرَة يَقُولُ فِيه: "لَـمْ يُضِفِ الْمَجَلِسُ القاريُّ للجامعةِ الثقافيّة في العالـم أَكْثَرْ مِنْ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِوَاقِعٍ وَاقِعِيٍّ، مُعْتَرَفٌ بِهِ مِنْ جَمِيعِ مَنْ يَعْرِفُونَ فَضْلَكَ وإِبْداعَكَ وَشُمُوخَكَ"..
   وَنَحْنُ، مِثْلَ الدّكْتور رِفعت السّعيد، نَعْرِفُ فَضْلَ شَرْبِل بعيني، وإبداعَهُ وَشُمُوخَهُ، وَلِهَذَا دَعَتْنَا رَابِطَةُ الْجَمْعِيَّاتِ اللبنانيّةِ فِي السَّانت جورج، وَلِهَذَا لَبَّيْنَا دَعْوَتَهَا.. فَأَلْفُ مَبْروكٍ لجاليتِنَا بِإِمارَةِ الأَدَبْ.. وَأَلْفُ مَبْرُوكٍ لِشَرْبِل بعيني بعيدِ مِيلادِهِ الذَّهَبِيّ.
    إِثْنَانِ اسْتَحَقَّا الإِمَارَةَ عَنْ جَدَارَة: شوقي القائل: 
وَلِلْحُرِّيَّةِ الْحَمْرَاءِ بَابٌ     
 بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
وَشَرْبِل القائل:
يَا طِفْلَ الأَرْضِ الْمُحْتَلَّه            
يَا فَجْرَ شُعُوبٍ تَتَأَلَّمْ
إِضْرِبْ.. إِضْرِبْهُمْ.. إِضْرِبْنَا     
 فَالْكُلُّ بِحَقِّكَ قَدْ أَجْرَمْ
   وَشُكراً لإِصْغَائِكُمْ...
**
مَن الأجرأ شربل بعيني أم البيرق؟
   كان بودّي أن أخصّص هذا المقال للإشادة بمسرحيّة شربل بعيني الأخيرة "يا عيب الشوم"، التي أطربتنا بتغريد ثلاثمئة بلبل من مدرسة سيّدة لبنان التابعة لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات ـ هاريس بارك.
   ولكنّ الضجّة المفتعلة حول قصيدته "قرف"، التي نشرتها "البيرق" مشكورة، بتفنّن وإتقان، أعادا إليّ أيّام كنت أنشر، عن إيمان، قصائد شربل بعيني في جريدة "صوت المغترب" بنفس الطريقة المتقنة، التي تقرّب الشعر للمتلقّي، وتحبّبه إليه.. هذه الضجّة أجبرتني على الكتابة من باب المحبّة، لا من باب النقد وفرض الآراء والإستبداد والحسد والضغينة.
   حين ألقى الشاعر شربل بعيني قصيدته الرائعة "قرف"، في أمسية تكريم المحامي محمود بيضون، بدعوة من جمعيّة أبناء بنت جبيل الخيريّة، أحسست أن القاعة ، على وسعها، قد ضاقت بتصفيق المعجبين المحبّذين المتأفّفين من الأوضاع الشّاذة التي وصلنا إليها، إن كان في بلادنا، أو في مهجرنا البعيد هذا.
   وكم كانت فرحتي عظيمة، عندما سمعت الأستاذ جوزيف خوري يقول، بعد انتهاء الأمسية، إنه سينشر "قرف"، وسيعلن عنها قبل نشرها، وقد وفى الرجل بوعده.
   ولكن، ماذا حدث؟
   كل الذين تحت إبطهم مسلّة، كما يقول المثل العربي "هاجوا وماجوا"، وألهبوا الأشرطة الهاتفيّة على مدار السّاعة، بغيّة الأخذ بالثأر، متخفّين تحت ستار نفور بعض الكلمات المستعملة في "قرف". وإليكم شرح الكلمات التي لـم تستوعبها أدمغتهم:
ـ زُبَيْر.. اسم عائلة عربيّة شهيرة، عرف كيف يستغلّه الشاعر كي لا يخدش أذواق قرّائه، دون المساس برونق صورته الشعريّة.
ـ هشّ.. ومَن منّا لـم يقلها لحمار ركبه أيّام زمان، وتناساها عندما ركب "الترومبيل".
ـ نسّ.. اسم حيوان كريه الرائحة، استعان به الشاعر لتبليغ وتوضيح صورته الشعريّة، وما أكثر النسانيس بيننا.
ـ طُز.. وقد قالها فنّان العرب الأكبر دريد لحّام أكثر من ثلاث مرّات في مسرحيّة "صانع المطر". كما أن المصريين يقولونها للدّلع والمحبّة، وما أجملها في قصيدة شربل، لأن الذين شتمونا بها هم الحكّام، مصّاصو دماء الشّعب!! 
ـ من برَّا ضروب يا خرَّا.. مثلٌ شعبيّ مشهور، لا يجهله إلاّ أعمى البصيرة والبصر. وكأننا لـم نحفظ من أمثالنا الشّعبيّة مثلاً واحداً، ردّده الأجداد والآباء والأحفاد، وسنبقى نردّده إلى يوم القيامة.
   إذن، فثرثرة الحسّاد، دعاة المعرفة، المراهقين، مردودة إلى أصحابها. ومَن عاب على شربل بعيني نزوله إلى هذا المستوى من الشعر "المبتذل" حسب تعبيرهم، الإنساني الرّائع حسب تعبيرنا، نسي أو تناسى قصيدة المتنبّي، سيّد الشّعراء، في هجاء "ضبة بن يزيد الطرطبّة"، والتي كشف بها كل ما يخجل الإنسان من كشفه، ومن لـم يقرأ قصيدة المتنبي التي مطلعها:
ما أنصَفَ القَوْمُ ضبَّه
وأمّه الطّرطبّه
وما يَشْقى على الْكَلْبِ
أن يكونَ ابنَ كَلْبَه
والتي تفوق بروعتها، رغم إباحيّتها، جميع ما كتب المتنبّي من قصائد، لأنّها نابعة من "قرفه" الجارف، وتأفّفه من تلك الخنافس العالقة بذيل حصانه، بإمكاني أن أزوّده بنسخة عنها.
   أخيراً، لا يسعني إلاّ أن أقول: إن جرأة "البيرق"، وجوزاف خوري بالذات، قد فاقت جرأة شربل بعيني، لأن شربل كتب، و"البيرق" نشرت وأوصلت ونجحت.. فألف شكر.
البيرق، العدد 672، 3 تمّوز 1993.
**
اليوبيل الفضي للشاعر شربل بعيني
   دعوة الجمعيات العربية في أستراليا أبناء الجالية الكريمة للمشاركة في إحياء المهرجان الأدبي الكبير بمناسبة اليوبيل الفضي للشاعر شربل بعيني يوم الثامن عشر من شهر كانون الأول 1993 في قاعة غرانفيل تاون ـ هول، الساعة السابعة والنصف مساء، تختلف في مضمونها ومحتواها عن الدعوات التي تعودناها في مغتربنا الأسترالي.
   إنها تدل على يقظة وجدانية، ووعي فكري للداعين والمدعووين، والتزام منا بالتراث الثقافي، واتصال وترابط لتاريخنا الأدبي بحاضرنا الاغترابي.
   وهذا اليوم، لِمَ لا يكون يوم عكاظنا نحتفل به ونحوله الى مهرجان أدبي مهجري رائد، منبر فكري حضاري، نتحدى فيه الظلم والقهر والاستبداد، وتحطيم الأغلال، لتنطلق أقلام شعرائنا وأدبائنا نحو السرمدية، ولتتحول مشاعل نور أبدية تضيء أفكارنا بالحب والخير والتضحية والعطاء، وتحمي إنساننا، وتصون حريته ليصبح عن حق صورة الله على الأرض.
   والشاعر شربل بعيني الذي نحتفل بذكرى مرور خمسة وعشرين عاماً على صدور "مراهقة"، كان فناناً مبدعاً في تجسيد المفاهيم الانسانية بأشعاره التي حملت في طيّاتها مضامين اجتماعية وطنية خالدة.
   أشعاره بالفصحى والعامية تنساب رقة وعذوبة، بعيدة عن المواربة والتعقيد ولغة الطلاسم، بسيطة المرادفات، سلسة الترابط، حساسة المشاعر، صادقة العاطفة.
   غنّاها بسطاء الناس الذين عايشهم، معبرة بشجاعة نادرة عن ألمه الوجداني، الذي يرفض أن تداس الرقاب التي تأبى أن تداس، فتحولت أشعاره ومسرحياته ناراً تحرق جبروت المتسلطين، ونوراً يضيء طريق الانسان في مجاهل الوطن والغربة.
   شربل المؤمن بأن الحرية عين ترى، وضمير يتكلّم، وقلب ينبض بالحياة، وارادة تعمل، قال في ديوانه "كيف أينعت السنابل؟":
أعرف..
أن الشعب مكتوب له أن يتعذّب
وأن يتوه في بقاع الأرض منبوذاً مغرّب
وأن يموت واقفاً
أو جالساً
أو نائماً فوق سرير من خشب..
هذا إذا لم يخطفوه عنوة
ليرجم ويصلب
هذا إذا لم يجبروه
على الموافقة على ما سوف يُكتبْ
فوق الضريح،
أو على أوردة الجسم المعذّب.
   وأثبت على أنه يد ترسم هدفاً، وإزميل ينحت شموخاً، وموسيقى تنشد أملاً، وكلمة شماء تتحدى القهر في زمن بات فيه أصحاب الصولجان فرساناً، والشعب ذبيحاً، والأقلام مرصودة، والحرية مفقودة، والسلطة في يد الأزلام يغيثون فساداً في شرق يبحث عن الحياة، وها هو يقول في "قرف":
سكّر تمّك فاق الجار
تمّك لازم يتسكّر
جارك بيسجّل أخبار
بيعصرها بإدن المخفر
زرعوا جاسوسن بالدار
وانت مغمّض يا معتّر
جارك.. صدر كنافه صار
وبعدك منقوشة زعتر
   وبعد هذه اللمحة الخاطفة عن شعر شربل بعيني، أشدد على الدور الأدبي الرائد الذي سيقوم به سعادة سفير لبنان الدكتور لطيف أبو الحسن، وسيادة المطران يوسف حتي، وفضيلة الشيخ تاج الدين الهلالي، وجميع الاخوة المتكلمين، ولا شيء ينوب عن حضور المهرجان، لذلك أدعو الجالية للمشاركة بفرحتنا المقبلة.. وأهلاً وسهلاً.
**
مسرحية شربل بعيني: جارنا أبوردجيني
كل سنة يقف عمالقة معهد سيّدة لبنان الصغار، ليحصدوا الإعجاب والتصفيق.. وليعترف بموهبتهم الفنيّة كل من حمل قلماً أو آلة تصوير أو مذياعاً، وليصفّق لهم كل من تنعّم بحركاتهم، بقفشاتهم، برقصاتهم، وبنبرات صوتهم الهادفة..
   كل سنة مسرحية.. وكل سنة نجد أن بإمكان الأطفال الصغار لعب الأدوار الصعبة، بعفوية بالغة، وبإتقان يحسدون عليه.. ولا هم عندهم سوى إسعاد جمهورهم الذي يتزايد سنة بعد سنة.
   أعمارهم لا تزيد عن 12 سنة، وأعمالهم تصلح للرجال المشوربين، ووللنساء المبودرات.. ولكن، لا الرجال ولا النساء، بإمكانهم التفوّق عليهم بالتمثيل.. إنه يجري في دمائهم.. ويتشاوفون به.
   وها هم يقدمون في الحادي عشر من شهر أيلول 1998 مسرحية (جارنا.. أبوردجيني) التي كتبها وأخرجها الشاعر شربل بعيني، فيلهبون القاعة حماسة، ويوجهون رسالة تأنيب لكل العنصريين في أستراليا والعالـم أجمع..
   وحتى تكون السهرة منوعة، قدّم أطفال الصف الرابع الابتدائي عرضاً بعنوان (تحت ماء البحر) من إعداد المعلمات راكيل ميرفي وكلانسي هويل ومارينا بابيك. كما قدم أطفال الصف الخامس عرضاً عن مقتل الابوردجينيين من إعداد المعلمات دانا برادز و جاين إليش وفالنتين حلبي.
 **
مسرح شربل بعيني
   أخبرتني الممثلة المهجرية المعروفة نجوى عاصي، أنها رافقت الفنان العربي القدير دريد لحّام في زيارته لمعهد سيّدة لبنان هاريس بارك عام 1993. وعندما سأل الراهبات عن أهم نشاطات المعهد، أخبرنه أن التلاميذ قاموا بعمل مسرحي جيّد إسمه "ضيعة الأشباح" من تأليف وإخراج الشاعر شربل بعيني. فما كان من الأخت مادلين أبو رجيلي إلاّ أن وضعت شريط الفيديو في آلة العرض، وراح "غوّار الطوشي" يطوش بعبقريّة صغارنا المغتربين، وبأدائهم الجيّد، وبتمثيلهم الرائع، وكأنهم خلقوا للتمثيل وخلق التمثيل لهم. فما كان منه إلاّ أن قال أمام الجميع: جميع وزارات الثقافة والتربية والتعليم في الدول العربية لا يمكنها أن تأتي بمثلها.
   نحن نعرف أن الوزارات العربيّة بإمكانها أن تأتي بأفضل منها لو شاءت، ولكن فناننا القدير أراد أن يبالغ بإبداء إعجابه بمسرحية اشترك فيها أكثر من 300 طالب وطالبة، أدّوا أدوارهم، بأقل من ساعتين، بإتقان بالغ وبطريقة يعجز عنها الكبار، رغـم أن أعمارهم تتراوح بين الثامنة والثانية عشرة لا غير.
   كما لا يسعني إلاّ أن أذكر أن الفنان اللبناني الكبير أنطوان كرباج قد استعان باحدى بطلات "ضيعة الأشباح" التلميذة أنطوانيت خوري، لتمثيل دور ابنته في مسرحية "كذّاب تحت الطلب". وأن المخرج التلفزيوني الشهير سيمون أسمر قد طلب من بطلة مسرحيات شربل بعيني التلميذة ريما الياس، أن تذهب إلى بيروت لأخذ دورها الطليعي في عالـم الغناء.
إذن، مدرسة شربل بعيني الفنيّة أطلقت الكثير من مواهب أطفالنا العمالقة.. وجعلتهم يشعرون بانتمائهم اللا محدود إلى تلك اللغة العربية التي ينطقها أجدادهم وآباؤهم.
   ورغم صعوبة التعامل مع مئات الأطفال في مسرحيّة واحدة، نجد أن شربل بعيني لـم يستسلم لليأس، بل أغنى الفن الإغترابي باثنتي عشرة مسرحيّة ولا أجمل.. فاعتبر عن حق "مؤسس المسرح الطفولي في أستراليا"، على حدّ تعبير رئيسة معهد سيّدة لبنان في هاريس بارك الأخت إيرين بو غصن، ليلة افتتاح مسرحيّة "شارع اللبنانيين" عام 1997.
وإليكم لائحة بأسماء المسرحيّات التي ألفها وأخرجها:
فصول من الحرب اللبنانيّة ـ 1987
ألو أستراليا ـ 1988
الطربوش ـ 1989
ضيعة الأشباح ـ 1990
هنود من لبنان ـ 1991
يا عيب الشوم ـ 1993
أللـه بيدبّر ـ 1995
المدرسة ـ 1996
شارع اللبنانيين ـ 1997
جارنا أبوردجيني ـ 1998
طلّوا المغتربين ـ 2000
عصابات وبس ـ 2002
يا مار شربل - 2004
الكنز المسحور - 2005
   وبما أنني حضرت معظم هذه المسرحيّات الخالدة، وكتبت عن بعضها، أجد لزاماً عليّ أن أعترف بأن كل واحدة منها كانت تقول للثانية: أنا أجمل منك. فلقد أوقعنا شربل بعيني بحيرة ما بعدها حيرة: من أين يأتي بأفكار مسرحيّاته؟ وكيف بإمكانه أن يسيّر جحافل من الأطفال بطريقة يعجز عن وصفها اللسان؟
   قال الأستاذ جوزيف خوري في مقال نشره في البيرق العدد 1766، عن مسرحيّة "طلّوا المغتربين.
   كل عبارة في المسرحيّة بحاجة إلى دراسة مطوّلة، رغم كوميديّتها الصارمة الهادفة، التي أضحكت الجمهور حدّ البكاء، وجعلته يتعلّق أكثر فأكثر بخشبة المسرح، دون ملل أو تأفف.
   وعن خبرة شربل بعيني في المسرح الطفولي، كتب الأستاذ بيار رفّول في جريدة الهيرالد، العدد 201، أن:
"الأداء الجماعي بيّن عن أنه أصبح له خبرة واسعة في هذا المجال".
   وعن ازدحام القاعة بالحضور ليلة عرض مسرحيّة "فصول من الحرب اللبنانية" عام 1987، كتب الاستاذ بطرس عنداري في عدد النهار 547، ما يلي:
"شارك بالتمثيل حوالي 300 طالب وطالبة، وهذا حدث هام بحد ذاته، ولوحظ ازدحام القاعة الكبرى بالحضور، الذي زاد عن الألف نسمة".
   أما عن احترام قدسيّة الوقت أثناء عرض المسرحيات، فلقد كتب الاستاذ جوزاف بو ملحم في صدى لبنان العدد 554، ما يلي:
   "المسرحية بدأت في وقتها المحدد، والذين تأخّروا ثواني فاتهم أن يروا بعض مشاهدها، فكأنما شربل بعيني وطلابه ثورة إجتماعيّة بيضاء، تحاول تخليص شخصيتنا الإجتماعيّة مما علق بها من أمراض عدم احترام الوقت، وقلة التقيد بالمواعيد، وإذا الثانية عندهم ثانية، هي جزء من العمر، تقال فيها كلمة، تمثّل حركة، يفتضح أمر أزعر، تسدى نصيحة، ويلطش زعيم".

   وقد خصّ الاستاذ أنور حرب مسرحيّة "الطربوش" بمقال نشره عام 1989، في عدد التلغراف 2011، جاء فيه:
   "الفكرة ناجحة وتستحق التنويه، والتنفيذ رائع يستوجب التقدير، والتمثيل حيّ لأنه ينطلق من قلوب بريئة لـم تدنّسها أوساخ السياسة".
   ولكي يحوّل النثر إلى شعر، ولغة الجرائد إلى أدب، راح رئيس تحرير جريدة التلغراف الأستاذ أنطوان قزّي يصف مسرحيّة "يا عيب الشوم" في العدد 2526، بهذه العبارات:
   "من الثبات، من غفلة الساعات المتسارعة، من عجقة الأرصفة المظلمة، يوقظنا شربل بعيني، ويحملنا إلى مسرح سيّدة لبنان مشاهدين، مستلهمين، معجبين، حاملين في أيدينا أسراب عصافير، ولتبقَ الأشجار بلا أطيارها، نغمض العيون على الفرح الآتي من فوق، من على الخشبة، نغمضها جيّداً كي لا نطل على الشارع من جديد على درب "يا عيب الشوم".
هنيئاً لنا بصغارنا الكبار، براهبات ساهرات، وبشاعر أقل ما يقال فيه انه يصهر من الطفولة ما يغني عن سفسطة البلغاء".
   إذن، نجاح مسرحيّات شربل بعيني، وباعتراف رؤساء تحرير الصحف المهجريّة، لا غبار عليه، لا من ناحية التأليف والإخراج، ولا ناحية الفكرة، ولا من ناحية التمثيل، ولا من ناحية الحضور.. حتى ولا من ناحية احترام الوقت.
   ألـم أقل لكم إن شربل بعيني لـم يدخل مهنة التعليـم في معهد سيّدة لبنان، إلاّ حبّاً بأجيالنا الصّاعدة. وها هو الاستاذ أنور حرب يرى ما أرى في مقال نشره عام 1990، في عدد التلغراف 2089، عندما قال:
"هذه النواة يسهر شربل بعيني على زرعها ورعايتها في النفوس البريئة، ويرعاها كي تنمو في المستقبل وتزهر وتثـمر".
   كما أن الاستاذ أنطونيوس بو رزق قدّم شكره للشاعر بعيني عام 1989، على ما يقوم به من أجل تنشئة أزهار الغربة، فكتب في صدى لبنان العدد 677، ما يلي:
   "أخيراً، لا بدّ لنا أن نشكر كاتب المسرحيّة ومخرجها الشاعر شربل بعيني، الذي عمل من مسرح سيّدة لبنان تقليداً سنوياً ينتظره الجميع بفارغ الصبر كل عام، والذي ساهم ويساهم في إنماء الحس الفني لدى التلاميذ الذين من المؤهل ان يكون لهم شأن في عالـم الفن والرقص والتمثيل".
   وهل أجمل من اعتراف المربي الكبير المرحوم فؤاد نمّور، في مقال نشرته البيرق في عددها الصادر بتاريخ 13 تموز 1990:
   "بأن شربل بعيني قد وصل الذروة في مسرحيته السابقة "الطربوش" إلى أن حضرت "ضيعة الأشباح" فاكتشفت أن درجات سلّمه طويلة، وانه قادر على اكتشاف المواهب بين طلابه إلقاء وتمثيلاً وغناء ورقصاً".
   وهذا ما أكّده الدكتور جميل الدويهي في جريدة صوت المغترب العدد 1060، عندما اعترف أن شربل قد تمكّن في أحيان كثيرة من اختراق السقف المسرحي:
   ".. وإذا كان شربل بعيني قد وجد نفسه مقيّداً في أمور كثيرة، منها اضطراره لإظهار 600 طفل في مسرحيّة واحدة، مما يعني اضطراره أيضاً لمراعاة قدرة الأطفال على الحفظ والأداء.. فإنه في الوقت نفسه استطاع أن يقدّم عملاً جيّداً، وفي أحيان كثيرة تمكّن من اختراق السقف الذي حددته له قدرة هؤلاء الشبّان، كما في المقطع الذي دار بين "البصّار" والفتاة التي تبحث عن عريس".
   أما الاستاذ أنطوني ولسن فكان في كل مرّة يفكّر فيها بمستقبل الأطفال يلجأ لصديقه شربل بعيني، وها هو يستنجد به في مقال نشرته البيرق في عددها الصادر بتاريخ 10 آب 1990:
"وأخيراً أعود إليك يا شربل، فسامحني.. لماذا أفكّر بك عندما يرتبط تفكيري بالأولاد، ربما أحس بإحساسك المخلص تجاه هؤلاء الاولاد، وإني أتمنى أن تقود أنت المسيرة لخلق جو إجتماعي يهتم بأولادنا في المهجر".
   ومن أجل إيجاد مثل هذا الجو الإجتماعي، ارتأى الأستاذ هاني الترك أن تعرض مسرحيّة "عصابات وبس" في المدارس الأخرى، فكتب في جريدة التلغراف، العدد 3891، الصادر في 3 تموز 2002، ما يلي:
"إن المسرحيّة عمل فني رفيع، ويجب أن يعاد تمثيلها في المدارس العربيّة الأخرى. إذ من الواضح أن الشاعر بعيني قد بذل فيها الجهد الضخم، وهي مسرحيّة فنيّة تثقيفيّة تعليمية ترفيهيّة.
إنها مسرحيّة تستحق العرض على باقي أطفال الجالية العربية واللبنانية في المدارس الأخرى. تحيّة إلى البراعم الأطفال الذين جسّدوها على خشبة المسرح".
    لقد منّ اللـه على شربل بعيني بوزنات أدبيّة وفنيّة كثيرة، وأعتقد أنه عرف كيف يتاجر بوزناته ويضاعفها، وكيف يحوّل صحراء غربته إلى حديقة غنّاء تنشد فيها فِلَذُ أكبادنا أجمل الألحان وأرقّها.
**