شربل بعيني وتغيير الكون/ ميشال شرف

درس أدب شربل بعيني في جامعة مكارثر

لمحة عن الشاعر:
  ولد الشّاعر شربل بعيني عام 1951، في قرية مجدليّا الواقعة بالقرب من طرابلس الفيحاء، عاصمة شمال لبنان. وهي قرية ذات طبيعة خلاّبة وجمال أخّاذ.
   تأثّرت نشأة الشّاعر بأجواء تلك القرية الوادعة، وبعادات أهاليها الذين يحبّون الفرح والحفلات وحلقات الدّبكة، فتولّدت في داخله روح الشّاعر.
   غادر لبنان إلى أستراليا عام 1971، وهو في العشرين من عمره، فدخل عالماً مجهولاً بعيداً نائياً، وذاق عذاب الغربـة، ولكنّـه بقيَ ابن وطنـه، فأعطى لبنان عصارة فكره، وأوصى في ديوانه "مجانين" بنقل جثمانه إلى تراب ذلك الوطن الجميل:
عارف أنا.. عم إكتب بشعري
نهايتي.. ونهايتي استشهاد
وعم إسرق الإيّام من عمري
وإيّام عمري كلّها أمجاد
ما همّني لو يطعنوا صدري
وما همّني لو صار جسمي رماد
الْـ بيهمّني.. ما ينفتح قبري
إلاّ بْبِلادي.. وينكتب فوقو:
"مات تا يفدي شعب وبلاد"
   وشربل شاعر مؤمن باللـه، يحبّ أخاه الإنسان، ويصبو دائماً إلى تغيير الكون وإنقاذه من الضّياع، فجعلته التّجـارب والظـروف الصّعبـة التـي مرّت عليه شاعراً حكيماً متّزناً... وخيـر دليـل على صحّـة ما أقـول قصيـدتـه "حابب غيّر هالكون ومش قادر"، الّتي اختـرتـها مـن ديـوان "معزوفة حبّ".
القصيدة:
يا حلوة العينين المزروعه بالنّار،
إيديكي كتبوني عَ حجار الليل ومحيوني.
نظراتِك رميوني بإشيا مش مقشوعه 
وفيها لذِّه.
حكيُولي عنّك النّاس،
والنّاس بيحكوا عن حالُن.
قالولي إنّك قمحه ما بتفرِّخ..
قالولي إنّك تلجه مرميّه بِقفوة جبل،
ورده.. والنحل بيهرب منّك ، قالولي.

دربِك مهما مشيت عليها مش رح أوصَل.
إجريي تعبوا من نصّ الدّرب،
والبيت الـ عَ كتف الغيمِه بعدو معلّق،
لا الرّيح بتقرب منّو،
ولا النّسر العالي بالجوّ.
إنتِ الطفله المولودِه عَ إيديي
إنتِ الرّعشِه الـ عم بتنام بكلّ عروقي
شفافي مشتاقه للحمرا الطّازه .

إيامي ـ والوقت هارب ـ
أشعاري ـ والفكر ضايع ـ
ركعوا وصلّولِك،
وضويُولِك شمعه منسيّه بزوايا البغض.
وليش البغض؟!!
وين مارحت، ووين ما مشيت، بشوف البغض:
متل المارد،
متل الحاكم الظّالِـم،
متل الجلاّد اللي بتسجدلو رقاب الكل..
العالـم جنّوا، العالـم كفروا،
أللـه صفّى بعيونُن حلم مزعج..
أللـه.. أللـه.. وينَكْ؟
وين صواعق اللمع الناريِّه،
تشق الليل، وتبني أْساس نْهار جديد،
تضرب، تشقع روس معبّايِه بالحقد الأسود،
وما بتستاهل إنْها تعيش؟!

عَفوِك،
عفو عيونِك اللوزيّه،
كان الأفضل إنّي إسكت،
كان الأفضل إنّي عضّ عَ الجرح وإسكُت.
لكن جرحي متل الناس،
ان ما حكيت ، بيحكي هُو.
ان ما شكيت بيشكي هُو.
شي عجيب..
الواحد الما بدّو يموت،
صار عم يطلب من ربّو تا يموت.
الآخره هَوْن..
والبدايه كانت صعبِه.
الأصحاب فلّوا،
وهجروا القلوب الـ كانوا فيها..
الغايه بهالعصر بتبرّر الواسطه..
والواسطه بتهدم بيوت النّاس الـ ما عندُن غايِه.
نيّال قلبِك شو صافي،
متل البحر البكر،
الـ ما شقّت عْبابُو بْواخر.. شْخاتير.
الـ ما رِميُوا فيه الصيّادين شْباكُن،
واللي حافظ عَ سمكاتو،
متل ما حافظتِ عَ طهارتِك،
بعصر كلّو حقد وضغينِه.

يا حلوِه، 
حابِب غيِّر هالكون، ومش قادِر.
حابب إزرع ناس وأقطف ناس، ومش قادر.
إنسان..
وعجزي أكبر من حالي.

.. وبيكفيني إنّي كون
طير معشعش بقرميدِك
حتّى حبّك كلّ الحبّ 
الهربان من دعسات الحقد الأسود.
شرح القصيدة :
   في قصيدته الرائعة هذه، يخاطب الشّاعر شربل بعيني حبيبته، ويعلمها عن رغبته في تغيير العالـم.. وكأنه يستغيث بها ، بغية مساعدته:
حابب غيّر هالكون، ومش قادر
حابب إزرع ناس، وأقطف ناس، ومش قادر
إنسان.. 
وعجزي أكبر من حالي.
   لذلك، نراه يخاطبها بحلوة العينين، التي كتبت إسمه على أحجار الليل، ثمّ محته كي لا يعرف به أحد:
إيديكي كتبوني عَ حجار الليل ومحيوني..
   وفجأة، يبدأ النّاس بنقل الأخبـار والروايـات وزرع الفتنة.. قالوا إن حبيبته "قمحة" لا تنبت سنابل ـ أي أولاد ـ... "ثلجـة" تعانـي البـرود الجنسي... "وردة" لا يقربها النحل... لكنه لـم يصدّقهم، إذ أنهم كانوا، من خلال تلك الأقاويل، يعبّرون عن واقع حالهم:
حكيولي عنّك النّاس،
والنّاس بيحكوا عن حالُن..
قالولي إنّك قمحه ما بتفرّخ..
قالولي إنك تلجه مرميّه بقفوة جبل..
ورده، والنحل بيهرب منّك، قالولي.
   ويمضي شربل مخاطباً إيّاها: دربك، يا حلوتي بعيد بعيد، وقد تعبت من المسير إليكِ.. فساعديني أيتها الطفلة المولودة علي يديّ، شفتاي مشتاقتان لحمرتِك الطازجة:
دربِك مهما مشيت عليها مُش رح أوصل..
إجريي تعبوا من نصّ الدّرب،
والبيت الـ عَ كتف الغيمِه بعدو معلّق،
لا الريح بتقرب منّو،
ولا النّسر العالي بالجوّ..
إنتِ الطفلِه المولودِه عَ إيديي
إنتِ الرّعشِه الـ عم بتنام بكلّ عروقي
شفافي مشتاقَه للحمرا الطّازَه.
    وبعـد كـلّ هذا التودّد، يبدأ شربل بعيني بتفجير شكواه، فيخبرها عن وقته الهارب منه.. عن أشعاره العاجزة عن التعبير، وكيف أن البغض يسمّم الأجواء المحيطة به:
وين ما رحت، ووين ما مشيت، بشوف البغض:
متل المارد، 
متل الحاكم الظالـم،
متل الجلاّد اللي بتسجدلوا رقاب الكلّ..
   أمّا لماذا أصبح البغض مارداً عملاقاً، وحاكماً ظالماً يحكم الكون بحد السيف وقوة السلاح والإرهاب؟!.. لأن اللـه أضحى في عيون الناس حلماً مزعجاً:
العالـم جنّوا، العالـم كفروا،
أللـه صفّى بعيونُن حلم مزعج..
   ويتوقّـف شربل بعيني هنيهة من الزمن، ثم يأخذ بمناجاة ربّه قائلاً: أين أنت يا إلهي؟.. أين الصواعق النّارية؟.. تشقّ الليل البشري، تبني نهاراً جديداً، وتضرب رؤوس أناس لا يستأهلون نعمة العيش:
أللـه.. أللـه.. وينَك؟
وين صواعق اللمع النّاريّه،
تشقّ الليل، وتبني أْساس نهار جديد،
تضرب، تشقع روس معبّايِه بالحقد الأسود،
وما بتستاهل إِنْهَا تْعيش.
   وإدراكاً منه لجرأة طلبه وعظمته، نراه يطلب العفو من عينيّ حوريته، فقد كان من الأفضل له أن يصمت، وان يعض على الجرح مكابراً.. حتّى وإن فعل ذلك، نراه يحوّل جرحه بشراً سويّاً يأبى السّكوت: 
عفوِك،
عفو عيونك اللوزيّه،
كان الأفضل إنّي إسكت.
كان الأفضل إنّي عضّ عَ الجرح وإسكُت.
لكن جرحي متل النّاس،
ان ما حكيت بيحكي هُو.
ان ما شكيت بيشكي هُو.
   عجباً لحال الدنيا، يقول شربل، حتّى الإنسان الّذي ما طلب الموت يوماً صار يطلبه: 
شي عجيب..
الواحد الـ ما بدّو يموت
صار عم يطلب من ربّو تا يموت.
الآخره هون،
والبدايه كانت صعبه.
   الآخرة هنا ـ من يدري؟! ولكنّ البداية كانت صعبة.. فكل الأصحاب، وشربل هنا لا يستثني أحداً منهم، هجروا القلوب التي حضنتهم وأحبتـهم في عصـر مادي بحت، الغاية فيه تبرر الوسيلة:
الأصحاب فلّوا
وهجروا القلوب الكانوا فيها..
الغايه بهالعصر بتبرر الواسطه..
والواسطه بتهدم بيوت النّاس الـ ما عندُن غايه!!
   ولأن صفاء القلوب أصبح نادراً، نراه يحسد حبيبته على صفاء قلبها ، فيشبهه ـ وهنا يلعب مرّة ثانيةً لعبة أنسنة الأشياء ـ ببحر بكرٍ لـم تشق السفن عباب، بل ظلّ محافظاً على ثرواته الأخلاقيّة، رغم شباك الصيادين، الذين يحاولون الصيد فيه والنيل منه:
نيّال قلبِك شو صافي
متل البحر البكر،
الـ ما شقّت عبابو بواخر، شخاتير
الـ ما رميوا فيه الصيّادين شباكُن
واللي حافظ عَ سمكاتو
متل ما حافظتِ عَ طهارتك
بعصر كلّو حقد وضغينه .
   وهنا، يبدأ شاعرنا بالإفصاح عن رغبته في تغيير هذا الكون، ولكن أنّى له ذلك، فهو، أولاً وأخيراً، إنسان من طين.. عجزه أكبر من حاله. ولكي لا ييأس، نراه يعزّي نفسه بنفسه، مدعياً أنّ ما يكفيه هو أن يبقى عصفوراً صغيراً معششاً في قرميد بيتها، حتّى يحبّها كلّ الحـب الهارب من دعسات الحقد الأسود.
   تعكس هذه القصيدة، في كثير من أبياتها، أسلوباً سلساً عذباً، يعبّر عن البيئة الطيّبة التي نشأ فيها الشّاعر.. تارةً يستخدم صوراً مسلوخة من ريف قريته: (قالولي إنك قمحه.. تلجه..  قفوة جبل.. ورده.. النحل بيهرب منك.. البيت الـ ع كتف الغيمه.. طير معشش بقرميدك).. وتارة أخـرى يفجّر براكين غضبه صوراً ثائـرةً يحـاول من خلالها توعيـة الإنسان، وبناء مجتمع أفضل: (العالـم جنّوا، العالـم كفروا.. أللـه صفّى بعيونُن حلم مزعج.. وين صواعق اللمع الناريه.. تضرب، تشقع روس معبّايه بالحقد الأسود).
   وبعد هذا كلّه، هل يتمكّن شربل بعيني بقصيدة أو بأكثر من تغيير هذا الكون؟.. أللـه أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع :
ـ بعيني، شربل ـ معزوفة حبّ، الطبعة الأولى، دار عصام حداد 1989.
ـ الأيوبي، عصمت ـ كلمة غلاف معزوفة حب.
ـ طبّاع، مي ـ شربل بعيني قصيدة غنّتها القصائد، دار عصام حداد ـ لبنان 1994
ـ بعيني، شربل ـ مجانين، الطبعة الثالثة 1993.
**