شربل بعيني الشاعر الذي يمثّل تياراً أدبياً في المهجر الأوسترالي/ وداد الياس

أعلامية مصرية مهجرية تعيش في سيدني
هناك شيء مشترك بين الملائكة والاطفال والفنانين قد يبدو هذا الشيء شفّافاً ومبهماً وغريباً لا تفسير له من الناحية العلمية المادية، لأن الروح لا تخضع لأي مقاييس سوى مقياس الاحساس والضمير والمشاعر.
وهو عندما تراه أو تقرأ له، أو حتى تسمع عنه، فأنت لا تنسى أبداً انه شاعر.. وحتى وان نسيت، فسرعان ما نذكرك كل بارقة فيه. إنه شاعرنا اللبناني العربي شربل بعيني.
آتٍ إلَيْكُمْ..
فوقَ أجنِحةِ الرُّعودِ
يا مَنْ تَقاسَمْتُمْ بِلادي، وَتَناتَشْتُمْ حُدودي
وَتَكالَبْتُمْ عَلى جاهٍ حقيرٍ
وَتَناسَيْتُمْ خُلودي
تُرْبَةُ الأرضِ أَنا!!
أقْسَمْتُ مِن عَهْدِ الْجُدودِ
أَلاَّ أُهادِنَ حاكِماً يَغْتالُ شَعْبي بِالْوُعودِ
الشاعر شربل بعيني كثير العطاء، غزير الانتاج صدر له حتى الآن أكثر من خمسة عشر ديوان بين العامية والفصحى، وهو من القلائل الذين اكسبتهم الهجرة درجات عالية من الانفعال الذي ترجمه في ابيات من الشعر.
حين اقرأ له، أو أجلس معه، أحس أن الشعر غالي ومسيطر على فكره وخياله، وفيما بين جمله ومعانيه وسطوره وفي انتقال الفكرة.. ألمح على الدوام ضوء حلم باهر وحساسية مفرطة، ومرآة شفافة تعكس أدق الانفعالات التي لا تراها إلا في قلوب وعيون الشعراء.
كتبت عن انتاجه الأدبي أكثر من مرة لصحف في أستراليا، وخارج أستراليا، وان كنت لا أنكر أنني لا أستسيغ شعره باللهجة العامية البعيدة عن لهجتي المصرية، ولكني كنت أشعر بما تحمله كلماته من المعنى وجمال التعبير، ولكن، وبعد مداومة قراءة انتاجه، بدأت أقترب منه أكثر، واحس بروحه المتمردة الرافضة للزيف. 
كلماته ناقدة، هادفة، وعباراته قاطعة، فهو شاعر يقف في مواجهة العالم، لأن في داخله شاعراً أكاد أحسه فوق ضهوة الحرية والكرامة والاباء، خارج على السلطة والمجتمع والظلم، وامام اصراره وشبابه اليافع في عباراته، أحسه ينتظر الموت وهو مفعم بحب الحياة.
في ديوانه "كيف أينعت السنابل؟" يقول:
خَبِّئينـي يا بِلادي تَحْتَ شالِكْ
وَاسْكُبينـي ضَوْءَ شَمْسْ
كَيْ أَشِيلَ اللَّيْلَ مِنْ قَلْبِ رِجَالِكْ
وَأُقِيمَ، كُلَّ يَوْمٍ، حَفْلَةً
فَوْقَ الْحَوَاجِزِ وَالْمَعَابِرْ
وَأَمَامَ كُلِّ حَبْسْ
وَعَلَى وَجْهِ الطُّفولَه
أَرْسُمُ الْحُلْمَ الْمُسافِرْ
وَرْدَةَ حُبٍّ خَجُولَه
وَأَناشِيدَ وَهَيْصاتٍ وعُرْسْ.
شربل بعيني الذي دعته وزارة الاعلام العراقية للاشتراك في مهرجان المربد للشعر، بسهولة نصافح التديّن في أغلب دواوينه، وفي بعض القصائد تتشابه الفكرة، وليس التعبير، بينه وبين نزار قبّاني، وشربل متأثّر الى حدّ بعيد بأفكار وأدب جبران خليل جبران. في قصيدته "عرسنا استقلال" يقول:
قَرَّرْتُ أَنْ أُحارِبَ الْقُبُورَ وَالأَكْفَانْ
وَأَطْعَنَ الْمَوْتَ الَّذي يَجْتَرُّنا في رِحْلَةِ الأَزْمَانْ
قَرَّرْتُ أَنْ أُجَرِّدَ الزَّعِيمَ مِنْ أَلْقَابِهِ
وَأَرْفَعَ الإِنْسانْ
إِنْسانُنا الْفَقِيرُ ، يا حبيبتِي ، يُباعُ في الدُّكَّانْ
في دواوينه "ألله ونقطة زيت"، "الغربة الطويلة"، "كيف أينعت السنبل؟" و"مجانين"، نجد في أبياته شعر التمرد، والخروج، وعملاً نقدياً وجمالياً.
كشاعر كبير، كتابته صادقة، تصاحبه فيها روح حيّة، وعقل ذكي ينبض بالمحبّة الصافية للشعر والتوحد معه، وكأن الشعر عند شربل همه وحياته.
شربل بعيني، شاعر يحب الله، وينتقل هذا الشعور لقارىء كلماته، وهو يرى الله مثالياً، فهو الله المحبة، والله العدالة، والله الجمال، والله خالق العقل والارادة والضمير، والله الرحمة. يقول:
أنا شاعر الحب
والهوى والجمال
أعيش للجمال 
وأفنى بالجمال.
قصائده في الرفض والتمرّد، أراها قصائد الشاعر قبل أن تكون قصيدة الشعر والتجربة الحرة الحية في شعره أهم من العرف والتقاليد، لأنه شاعر يحسّ بما حوله وينفعل به. وشاعر الرفض عامة يتحدث بلسان ذاته لا بلسان غيره. وتزداد آهات شاعرنا الفنان، ويحس الغربة فراغاً، ويتسع الفراغ ليتوه في الضياع، ويحس بالعالم الذي يسكبه في كلمات:
غُرْبَتي..
صارَتْ كَطَعمِ الْمَوْتِ صَعْبَه
أَوْجَعَتْها زَفْرَةُ الرّيحِ،
وَأنَّاتُ اليَنابيعِ،
وَآهاتُ الْحَصى والرَّمْلِ والتُّرْبَه
وَدُموعُ ذلكَ الطِّفْلِ
الَّذي أَضاعَ بِالزَّحْمَةِ رَبَّهْ
فاسْتَغاثَ كالشُّعاعِ التَّائِهِ
الْمَطْرودِ مِنْ شَمْسِ المَحَبَّهْ..
أينَ أَهْلُ الْخَيْرِ يا أمَّاهُ ـ قولي ـ
أَيْنَ جيراني الأَحِبَّهْ؟!
أيْنَ يسوعي الصَّغيرُ..؟!
فَإنَّنِي قَدْ ذُقْتُ صَلْبَهْ..
أَيْنَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ..؟!
أَيْنَ الْحُسَيْنُ وَالْحَسَنْ؟!
أَيْنَ الصَّحابَهْ..؟!
قَدْ هَجَرْتُ الدَّارَ مِثْلَكَ يا رَسولي
وَلَمْ أجِدْ تِلْكَ الْمَدينَهْ..
غَيَّروها..
غَيَّروا الأَسْماءَ في أَرضي الْحَزينَهْ
فَأُزيلَتْ "يَثْرِبُ"..
لِتَحُلَّ في الأَرْجاءِ "غُرْبَهْ"
كُلُّ الْمَدائِنِ في بِلادي
تَوَحَّدَتْ بِحُروفِ "غُرْبَهْ"
.. وَأَنينِ "غُرْبَهْ".
الشاعرية في مجموعة الدواوين التي أصدرها، ليست هي ترويض اللغة والقافية والتركيب، واعادة صياغة المعنى والصور القديمة المعتادة، وانما الشاعرية تبدأ بعد كل ذلك، وتستخدم كل ذلك، في تحويل ذات صاحبها الى قصيدة، فيها تجربة الشاعر ولغته الخاصة وحاجته الى الافضاء والمشاركة.
ومرة أخرى.. لو لم نكن نعتز بشربل بعيني شاعراً، لما طالبناه بأن يقود خطو القارىء، ليعيد لنا نضارة الشعر العربي القديم والحديث، من خلال انتاجه الغزيز النقدي الشاعري.. الحساس.
صدى لبنان، العدد 675، 5/12/1989
**