![]() |
كاهن وأديب عراقي معروف |
الكبير شربل بعيني... رسّام الكلمات
أديب بديع التصوير، بليغ التعبير. ساهم قلمه في نشر الثقافة ورفع سقف الوعي لدى القارئ، مقتحمًا بقلمةِ وكلمته الكثير من الأبواب الموصدة، مُعالجًا بحنكته العديد من الموضوعات الشائكة.
له أطباع الجبال، أدبه جَمّ، مُستمد من نزعةٍ صوفية ونبالةٍ أخلاقية.منحه الناس تقديرًا عاليًا لحظة توهج شعره وتألق موهبته إلى زماننا هذا. نبراسًا للمحبة عنوانه في زمنِ شُحت فيه المبادئ وقحطت المحبة فأصبحتا غيضًا من فيضٍ،
موهبته في بدأت ، اينعت في بيروت، حتّى غدت شجرة باسقة عابرة للقارات. أخذَ بريقه بالالمعان منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي لتحويل المنفى القاحل إلى ظاهرة أدبية بين المغتربين. تغلبَ على قرف الغربة بالكتابة. أمتشق القلم مسبحة، شكلتها خرز الكلمات، كبَخور المعابد رائحة أفكاره، بادل الطعنات بالقبلات وهذا أعجب العجائب. آمّ منزله- متحفه في مدينة ميريلاندز بسيدني عدد كبير من أهل الفكر والقلم ورّجال الدين والاعلام ورؤساء الروابط والجمعيّات ومحبي الكلمة، حتّى أمسى أدبه قبلةً للشعراء وخبزًا للجياع.
أفردُ هذه الصفحات لشخصيّة قريبة إلى القلب محببة للنفس، مُحترمة من العقل. جمعتني به علاقة صداقة طيبة تغلفها علاقة التلميذ باستاذه والأبن بابيه الروحي، بل قلّ علاقة كاهن براهبٍ حكيم، كان دائمًا مثارًا أعجاب وتقدير.
أودُ في هذا الكتاب التعريف بنموذجٍ لبناني تخطى أدبه حدود العالم العربي ليُحلق إلى العالمية. مانحًا ثمار الإبداع ، ناشرًا عصارة الفكر وخلاصة الأحساس بأسلوبٍ سلسٍ شيقٍ، يخلو من التعقيد ويبتسم أحيانًا بروح الفكاهة والأمتاع. كتبَ بحبر القلب، أشعاره كالبلسم على الجرح النازف، مقالاته تلتصق بالعقول، أما دواوينه تنعش القلوب.
كنتُ ألتهمُ صفحات كُتبُه قبل سنوات خلت مع غيرها من روائع الأدب العربي والعالمي وتراث الفكر الإنساني مثل الكثيرين من أبناء جيلي الذين استهوتهم المطالعة الورقية على خلافِ الجيل الحديث والمعاصر الذي يميل بشدة إلى القراءةِ الالكترونيّة. خلال مطالعتي لمؤلفاته كان يشدني إليها أستغراقه الشديد في التغني بلبنان والعراق الذي يعد من البلدان العربية التي نال منها إنتشاره العربي عبرَ المربد الشعري . وما أدراكم ما المربد[1]؟
شاعرٌ ناصعٌ من طينِة الكبار،ربّما أختلف بعض النقاد حول آرائه وكتاباته، بيد الجميع أتفقوا على قيمته الفكريّة وقامته الأدبيّة مُثنين على هامته الانسانيّة. تسامى عن الصغائر. لم يُعادِ أحدًا أو ينافس شخصًا، لم يلهث يومًا وراء الجوائز والمناصب، ولم يتكالب على الأضواء، لا يضع العصا في طرقات الآخرين، بل كان سلمًا يرتقي الأخرين من خلاله المجد. إذ ليس المهم أن يمتلكَ الأديب الموهبة وحدها، لكن الأهم أن يُضيف إليها الشخصيّة الرصينة والجاذبيّة الإنسانيّة والخلُق القويم، يمزج الكلمات بالسلوكيات، فنحن في زمن بُتنا نصرخ فيه يا أيها الأديب كُن أديبًا خلوقًا!.
نموذجنا اليوم هو شربل بعيني الذي أرى فيه عصرًا كاملاً يسير على قدمين، لم تؤثر فيه سنوات الغربة الطويلة، ولا خطوب الزمان، ولم تنل منه ندوب الأحداث وطعنات المنافسين. الغريب حقًا في أدبه وملامح شخصيته أمساكه لميزان الكلمة بعدالة وحيادية قلّ نظيرهما في زماننا هذ!.
سنوات مضت من التألق والشهرة، حصد خلالها الالقاب والجوائز، لكنه ظلّ يتحسس في قرارة نفسه أنَ حاجةً واحدة تنقصه، وهي التقرب من الله، وها هو منذ سنوات يعشق الإختلاء،باحثًا متعمقًا. مُكرسًا نفسه كراهب في صومعة الكلمة الأزلية[2].
شربل كاهنٌ قربَ الكثيرين من الربّ. ترك أضواء العالم ساعيًا لنيل مجد السيّد المسيح ورضى الله، فهو "أبونا شربل بعيني" كما يحلو لي أن أُناديه أحيانًا، لا يُفاخر بقامته الأدبيّة ولا بخزائنه الشعريّة، بل يزهو بتقربه من الله الذي قاده إلى إنصاف من جعلوا من اعماقهم فرنًا للكلمة البنّاءة، سيظلّ المهجر الأسترالي يذكر له مواقف روحيّة وطلات إنسانيّة ونوادر أدبيّة لا تُنسى. هذه شهادة عادلة في زمن كثر فيه المزورون والأدعياء والمزيفون.
قرأت له وقرأت عنه، إلى أن بادرني صديق مشترك في ايار 2011 وهو الصحافي المعروف جوزيف بو ملحم ـ أبو أمين- برغبة صديقه الشاعر العربي الكبير شربل بعيني بالتعرف عليّ شخصيًا واجراء مقابلة تلفزيونية في مجلته (الغربة) الغرّاء، بعد مطالعته لكتابي الموسوم (خلجات الذات الجريحة ج2). فقلتُ له: يا فرحة ما بعدها فرحة؛ فمنذ سنوات وأنا أقرأ وأسمع عن "رسّام الكلمات" شربل بعيني ، شربل الذي رسم أجمل الصور الشعريّة واللقطات الإنسانيّة في كتاباته المُعبرة عن موهبته الفطرية ونضجه الحياتي. شربل الذي أمتدحه الشعراء الكبار: نزار قباني، عبد الوهاب البياتي والأب يوسف السعيد رحمهم الله.
ولمن لا يعرف، فأنَّ شربل كان من أشد المتأثرين بأبيه الروحي وملهمه الأدبي نزار قباني، سيّما بعد أن التقاه في بيروت عام 1968 واهداه باكورته الشعرية ديوان "مراهقة"، فنصحه شاعر العرب الأكبر بالإبتعاد عن العامية والكتابة بالفصحى، وربّما لا أكون مُخطئًا بالقول: إنَّ البعيني أستمد من الشخصيّة العراقيّة جزءًا كبيرًا من الذكاء الأدبي والقدرة على تصوير المواقف الشعرية من خلال تجربته في المراسلة مع الشعراء: الجواهري، الأب يوسف السعيد، عبد الوهاب البياتي، نزار حنّا الديراني. ولا غرابة في الأمر فعلى مرّ التاريخ شهدنا أزمنة عانقت فيها النخلة العراقية الباسقة الأرز اللبناني الشامخ.
رأيته للمرّة الأولى بجسده الضخم وصوته الجهورَيّ حين نهض من مقعده وأنتصب قائلا: "يا هلا بـالأبونا المفكر"؛ يوم التقينا معًا في غداء محبة وتعارف بأحد مطاعم مدينة ميريلاندز بسيدني في شهر تموز 2011، رفقة الشيخ د. مصطفى راشد والصحافيّ جوزيف بو ملحم الذي كنا في ضيافته المعهودة، فقلتُ له: يا محاسن الصدف! وأخيرًا التقيت أنا الكاهن البغدادي الهوى والمولدِ بالشاعر اللبناني الذي كرمه بلدي العراق حين صدح صوته وتغنى بأرض العراق في المربد الشعري سنة 1987؛ ذلك الشاعر الذي له جائزة عالمية تحمل أسمه، تصدر من دار الابجدية في لبنان.
وجدتُ نفسي أمام شاعر لا تشوب شاعريته غبار، وبجوار صرح أدبي عملاق! أملتُ سمعي إلى أحاديثه، أمعنتُ النظر فيه، تفرست في وجهه جيدًا وقرأت في عينيِه ما يختبىء في قلبِه من محبة وطيبة، إن لم أقل أحزان. إنقضت ساعة واثنتان، الإستماع إليه شيّق ومُفيد، يُنسيك وجبة الطعام التي أمامك؛ لبق الكلام،أحاديثه غذاء للفكر، واسع الثقافة. له القدرة على توليد النكتة والدعابة ، يبث نكاتًا بين الحين والآخر كأنها معزوفات موسيقية، أضفت على جو الجلسة رونقًا وجمالاً.
غادرنا المطعم، ولبيت دعوته لزيارة مقر مؤسسته العامرة (مؤسسة الغربة الإعلامية)، وما أن وطأت قدمي عتبة المؤسسة حتّى بانت أمامي في الحال أوسمة وجوائز وميداليات أدبية وهدايا لا تحصى من شخصيات أدبية، سياسية ومؤسسات ثقافية عديدة، ناهيك عن ما يزيد عن 60 كتابًا حصيلة 45 عامًا في رحلة الأدب الممتعة والشاقة.
وأذكر أننا حين برِحنا مكتبه نظر كلّ منّا إلى الآخر وقلت لهم: إنّه قيمة وقامة عالية، إذ ما رأيت في حياتي قدرة على موضوعيّة السرد مثل تلك التي تمتع بها هذا الرّجل، فهو يرد الأمور إلى أصولها ويتعقب الظواهر إلى أسبابها. ولعلَّ أهم الامور التي ينفرد بها عن الاخرين أنّه يصغي بتمعنٍ ومحبة، يستوعب الموضوع المطروح عليه، يرتب أفكاره قبل التفوه بكلمةٍ، يمتلك ناصية التأثير في الآخرين من خلال قفشات مُسلية في غير أوقات الجد، شديدة الجدية أثناءه. كان لقاءً أورق في النفوس حضورًا وصداقةً.
صديق رافقته ورافقني لسنواتٍ في السرّاء والضرّاء، أدركته خلالها: عزيز النفس، لطيف المعشر؛ الجلوس إليه صنعة، والحديث معه متعة، يجمع بين رقي الشخصيّة وعلو كعب الموهبة. له حضورٌ طاغيٌ أهله لأختراق العقول والقلوب في وقت واحد. الاقتراب منه اعترافٌ بمكانتِه وتأكيدٌ لقيمته وحفاوةٌ بعطائه المتجدد وتألقُه المتواصل.
وقد لحظت أيضًا أنَّ أتعاب الحياة طالته، راحته تبدو في وحدته. تظهر على وجهه ندبات الزمن وعلى شعره المنكوش دلالات العبقرية التي لا تخلو من مسحة كبرياء شخصي، إلّا أنه قريب من البسطاء والعامة في أوقاتٍ ومناسبات، له نوادر يعرفها أصدقاؤه المقربون فقط. حلت به أهوال حياتية وأزمات أدبية، لكنه يبدو سعيدًا ،مرحًا، قريبًا من القلوب في المناسبات التي يظهر فيها، وجيهًا في الأحاديث الخاصة والجلسات العامة. غير أنّي لمست فيه غصة دفينة وحزنًا خفيًا يتجليان ساعة يُقلب سجل الذكريات في صندوق الذاكرة، بيد أنّه لم يكن يومًا من أيام معرفتي به من ناشري مناخ الأحباط واليأس، بل على العكس من ذلك. تميز عن الآخرين بالصدق والطيبة والرغبة في المساعدة على نحوٍ اكتسب أحترام كلّ من حوله، فلا أنسى تلك الأمسية الأدبية المُصغرة التي جمعنني به في حديقة منزله العامر عام 2012 بمناسبة ذكرى ميلاده الحادي والستين بصحبة الصديقين الكابتن سعدي توما والاستاذ موفق ساوا، بعد تركي كنيسة مار توما التي كنت أخدم فيها بكلّ جوارحي، فرأيت أنْ أطرحَ عليه بعض همومي في جلسةٍ لم تخلُ من تبادل الهموم وأستعراض المشقات التي تعرض لها الحاضرون، فإذا به يعبر عن تقديره لشخصي ويزيد على ذلك رغبته في المساعدة ، وهو أمر لا أنساه له ما حييت.
تشرفت بمولده بلدة مجدليا بقضاء زغرتا شمال لبنان عام 1951، كان مولعًا بالقراءة منذ الطفولة، فاكتشف في سنّ صغيرة إنَّ علاقته مع الكلمة كانت كعلاقة الأرض بالماء. دبجت أنامله الذهبية أولى قصائده (قصيدة حرّة) نشرها بعمر 13 ربيعًا في إحدى المطبوعات بطرابلس، يقول مطلعها: (عربي ما دمت أنت عربي، فاخي أنت إبن أمي وأبي). أصدرَ ديوانه الشعري الأول وله من العمرِ 17 عامًا، وقد أنبهر أستاذه الراحل "جليل بحليس" بذلك المراهق، فأطلق عليه لقب "فرخ فيلسوف". يُعد ديوان (فافي) الذي نشره عام 2013 أخر مؤلفاته المطبوعة، تغنى عبر صفحاته بالشاعرة والاديبة المصريّة المعروفة فاطمة ناعوت.
إنَّ شاعرية الشاعر قد تكون سيفًا مُسلطًا على رقبته منذ ولادته الشعريّة، هذا ما حصل لشربل في زمن المراهقة، فهو لم يكن يعلم أنَّ ديوان "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة، لبنان 1970"، سينغص عليه الحياة، ويحرمه من لبنان ومن حضن الوالدة[3] التي كان لها الأثر الكبير في نجاحات ولدها الإنسانيّة والأدبيّة؛ ففي ليلة من ليالي مجدليا الحالكة الظلام، قصدَ خوري الضيعة بيت العائلة وأبلغ والدة شربل أنَّ ديوان "قصائد مبعثرة..." لم يرق لبعض أشباح المكتب الثاني اللبناني، وعلى شربل أنْ يرحل وألا سوف يرمونه في البئر!.
هرعت والدته تتوسله مُغادرة لبنان، لكن شربل أبى الرحيل في بادئ الامر، لأنه لم يخلق ليكون شتاتًا في الأرض. ونزولاً لتوسلاتها قرر الهرب إلى ضيعة بعيدة عن يد البطش. وهناك حصل ما لم يكن في الحسبان، فذات مساء دُعيَّ لألقاء قصيدة في مناسبةٍ حزبية أو وطنية على ما أذكر من حديثه، نالت المديح والإشادة، ومن شدة الأعجاب قام بعض الحضور باطلاق العيارات النارية أحتفاءً وأنطرابًا بقصيدته التي ألبت عليه المزيد من الاعداء، وحتمت عليه الهجرة من لبنان قسرًا.
هاجر لبنان عام 1971 قادمًا إلى أستراليا بعد أن حزم أمنياته في حقائب السفر، في منفاه وجدَ مساحات من الحرية في الرأي لم يألفها في باريس العرب - لبنان، فلبنان كان باريسًا للعرب بجمالِ أراضيه وناسه وليس بساسته.
في القارة النائية أمتهن شربل مهنة الحياكة أول الأمر، إلى أنْ عملَ في التجارة، فادرك كيف يجمع بين الأدب والتجارة؛ إذ مكنته التجارة من نشر نتاجاته الأدبية في المهجر الاسترالي، وقد أَلفَ المغتربون العرب أسمه كما أّلفوا الشهيق والزفير. كتبت عنه الصحف العربية وأُجريت معه شتى أنواع المقابلات الصحفية واللقاءات الإعلاميّة، بعد أن كتبَ الزجل والشعر الحرّ والعامودي والنثر والمسرح بتفوق. مُمارسًا فيما بعد رسالة التعليم في معهد سيّدة لبنان بعد مضيء عقدٍ من الزمن على دخوله سيدني، ألّف خلالها عشرات الكتب المدرسية التي تُدرس في مُعظم المدارس الحكومية والخاصة، وأنشأ على مدى ثلاثة وثلاثين عامًا كأستاذٍ للغة العربية أجيالاً من التلامذة في معهد سيدة لبنان- هاريس بارك، مُقيمًا العديد من المسرحيات المدرسية حتّى أنَّ فنان العرب دريد لحام أطلق شهقة تعجب يوم حضرَ إحدى مسرحياته. والحال، يبدو أنه عندما يوصد في وجهنا باب الوطن، تفتح الغربة أمامنا بابًا أخر، بيد يبقى على المرء كيف يهتدي إلى ذلك الباب الذي يُبشر بحياة جديدة، أقول هذا لكي يتخذ أيّ مُهاجر من شربل أنموذجًا للتماهي.
أغدقت عليه ألقاب كثيرة منها: أمير الأدباء والشعراء اللبنانيين في عالم الإنتشار، الأديب العبقري، شاعر المهجر الأول، سيف الأدب المهجري، ملاح يبحث عن الله، رسّام الكلمات، أسطورة الأدب العربي المهجري، شربل بقلوبنا[4]، مدرسة أدبية فريدة، شمس الأدب العربي المهجري!، ولا غرابة في الأمر فبين أنامله وريشة قلمه همس كثير وشعر أصفى من غلالات الربيع. حصدَ أيضًا منذ شبابه إلى يومنا هذا أنفس الجوائز التقديرية من رؤساء دول وشخصيات علميّة ودبلوماسية، كما نال تكريمات لا تحصى، فضلاً عن شيوع أعماله الأدبية وأنتشرها في الكثير من أرجاء المعمورة، بعد أن تُرجم البعض منها إلى لغات عدة، فأدبه وِجدَ لكي ينتشر ويدوم.
من أبرز جوائزه: جائزة جبران خليل جبران العالمية، جائزة الارز للأدب العربي، جائزة أمير الادباء اللبنانيين، جائزة الإبداع من مؤسسة العراقية للثقافة والإعلام في 8 اذار 2012 بسيدني،
درع الإبداع عام 2014 من وزارة الثقافة اللبنانية، وهذه هي المرّة الأولى التي تكرمه بلاده. درع البياتي وقلادة الإبداع في مهرجان رابطة البياتي الأول الذي احتظنته مدينة سيدني بتاريخ 17/6/2015. حصل أيضًا على جائزة القصيدة العمودية مناصفة مع الشاعر الكبير يحيى السماوي في أمسية الرابطة الثانية يوم الثلاثاء الواقع 22/9/2015.
أُدرج أسمه مع نبذة عن حياته ومقطفات من شعره في معاجم عالمية وعربية أهمها: معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين/ الكويت، موسوعة الشعر العامي اللبناني/ بيروت- لبنان. إضافة الى الموسوعة الانكليزية/ جامعة ديكن في ملبورن عن الأدباء الإثنيين في أستراليا.
تميز شربل بالمزاج المُتقلب والغضب السريع والنبرة الصوتية المرتفعة، لكنه سرعان ما يعود ويهدأ ويُلطّف الأجواء خلال دقائق معدوة، ولا يغمض له جفن إذا كان يعي أنَّ أحدًا قد أنزعج من كلمةٍ قد تفوه بها أو من سلوك أقدمَ عليه بغير قصدٍ، ليُعيد المياه إلى مجاريها بلطفٍ إنساني وكياسة عُهد بها. وخلال مرافقتي الشخصيّة له ومطالعتي لنسبة كبيرة من نتاجاته، وجدتُه يولي المرأة الواعية المبدعة أهتمامًا خاصًا وإحترامًا كبيرًا في حياته، وإنْ كان تعدد زيجاته نغص عليه مُتعة الحياة ورحلته الأدبية، رغم أنّه لا يزال يكنُ للمرأة نفس القدر من الإحترام والتقدير. وتلك على ما يبدو سمة تُصيب بعض المفكرين والأدباء الذين يجدون في تقدير المرأة ملاذًا من ضغوط الحياة ووطأة الفكر!. كما أنه يخفي وراء سطور كتاباته آراءً سياسيّة حبيسة ومواقف خفية ممّن يديرون المشهد السياسي بلبنان الجريح.
وفي زمن بات فيه الكثيرون ضيقّي الأفق في محبتهم للإنسان كإنسان، وجدتُ شربلاً تميزه البراءة، منسجمًا مع نفسه صادقًا مع الجميع، وفيًا للغير، مُلتزمًا بمحبة الناس. لا ينزعج من نجاحاتهم، يأخذ بيدهم إلى طريق المجد والإنتشار.
يقول ما يريد قوله دون مراوغة أو تمويه أو غش أو تملق...وقد علمني ونحن في هذا الزمن الرديء الذي يتوجب على المرء فيه أنْ يقول دائمًا ما يحب الآخرون أنْ يسمعوه، أنْ أقولَ كلمتي وأنْ أكونَ حُرّ الكلمة والمواقف حتّى لو وجهت لي سهام الغيرة والنقد، فعلى الأديب ألاّ يخشى لومة لائم ولا يهاب النقد الجارح غير الموضوعي.
ولا زالت لصيقة بذاكرتي تلك الكلمة التي شرفني بها في أمسية توقيع كتابي "المبدعون غرباء عن هذا العالم" بتاريخ 12/11/2011:" الملفتُ حقاً هو وفاءُ الكاهنِ يوسُف لِمَن ساعدَهُ من بعيدٍ أو قريبٍ، وهذا ما لم نَعُدْ نَجِدْهُ في هذا الزمنِ التعيسِ، زمنِ الوصوليّةِ والغدر، وهذا ما يُرَجِّحُ كَفَّةَ موعِظَتِه، ويجعَلُ المُتَلَقِّي يَرْضَخُ لها دون إدراكٍ منه".
في مطلع حياتي الأدبية وتحديدًا عام 2000 أسدى لي أستاذي الباحث الراحل الأب بطرس حدّاد، نصيحة مجانية مفادها: "أنت الآن دخلت وسطًا لا تفقه خفاياه ولا تدرك محنه جيدًا، لأنك في مقتبل العمر، ولكن أعلم يا بُني أنَّ الدخول في رحاب هذا الوسط أشبه بتسلق الجبل، كلّما تقدمت خطوة نحو القمة تأتيك ركلّة تعيدك إلى الوراء عدة خطوات". ولقد وجدتُ صدى لتلك النصيحة في حياة الكبير شربل بعيني، فكما أنَّ ذكاءَ المرء محسوب عليه فإنَّ تألق الأديب أو أيّ مبدع في شتى المجالات يكون خصمًا له. وفي تاريخنا العربي على مرّ العصور أيقنا دائمًا: ويل لمن تطول قامته أكثر من اللازم! كما أختبرنا في محيطنا الشرقي كلّما كثرت الأضواء على شخص ما، كلّما كثرت حاجته لسيارات الأسعاف!. وقد أصابتني دهشة وصلت إلى حدِ الذهول، حين قرأت كيف تناولت سهام النقد الموضوعي وغير الموضوعي أدبه وشخصه، رغم أنه لم يتردد أو يخشَ من نشرها إيمانًا منه بحرية الرأي الآخر،مقتنعًا بعدالة الزمن الذي يُعده الحكّم النهائي والرقيب المطلق على نتاج الأديب، فللأسف أنَّ لغة التكفير والتنابذ غدت من مقومات النقد وتناكف الحوار لدى البعض منّا. وكما أنَّ الشيء بالشيء يذكر، فإنَّ البعض من منتقديه عاد وأمتدحه وأثنى على شخصه وأدبه، أما البعض الآخر فلم يعدل عن رأيه إلى الآن. هذا هو حال شربل دائمًا، كالشجر يرميه الناس بالحجر فيرميهم بالثمر، ولا عجب، لأن المعادن الطيبة لا تصدأ أبدًا، وإنَّ شموخ الرِّجال العظام يجعلهم كالأشجار الطيبة الثمار، واقفين باسقين حتّى نهاية رحلة العمر.
حقق شربل أمورًا كثيرة، وأخفق في أمورٍ أُخرى شأنه شأن سائر البشر، لأن الشاعر إنسان في أخر المحصلة؛ فالرّجل كان يطمح إلى الأبوة ولم يحظَ بها، وذات يوم أسرّ إليَّ بأمنيةٍ لا تزال تؤرقه ومفادها: "لو مَنّ الله عليّ بالأبوة لتمثلت بأبي". لكنه عاد وهمس لي بنبرة الإتكال على المشيئة الربانيّة: "لتكن مشيئتك يا ربّ".
أغتنمت الفرصة وسألته في إحدى الجلسات: لو عاد الزمن بك إلى الوراء هل ستمتشق قلمك مرة أُخرى وتجعله يعانق الورق؟ أجابني بسرعة وأنفعال: "نعم، وسوف أكتب أكثر ممّا كتبت، لان الله كلمة، والكلمة لا تموت أبدًا".
من مقولاته البليغة والخالدة: (العقل دائمًا يغلب البندقية شرط ألا يستسلمَ ). (البخيل إنسان يموت مرتين ليعيش ورثته من بعده). (الأديب الذي يستعطي الناسَ من أجل نشرِ أدبهِ سينشر الناس أدبه على السطوح)،(الغرور داءٌ قاتلٌ لا يفتكٌ إلّا بصغارِ العقول).(معظم الذين يحبون الجلوس على طاولات الشرف بلِا شرف).
برعَ شربل في موهبة الخطابة متميزًا على أقرانه، حتّى أطلق عليه البعض (ملك المنبر)( المايكرفون)، ولا شك أنَّ براعة الخطيب والشاعر أو أيّ متحدّث مهما علا قدره تتحدد في قدرته على الإيجاز وصياغة الفكرة العميقة في كلماتٍ قليلة وباسلوبٍ سلس والقاءٍ يشدّ الآخرين إليه. وقد تعلمت منه كيف أقف أمام المرآة وأتلو كلمتي خلال فترة زمنية لا تتجاوز الخمس دقائق قبل أنْ أعتلي خشبة المنبر! ولا تزال نصيحته تصول وتجول في ذاكرتي: " يا أبونا تذكر أنَّ المتحدث الذي يكثر الكلام من المنبر، يضجر من حاله قبل أنْ يضجر منه الآخرون". فهو والحق يقال ليس مُصابًا بمرض الاسهال الخطابي، كالذين يعتلون المنصة دون أن يتقيدوا بالوقت المحدد لهم.
أما عن وصيتهِ فقد كتب: "وصيتي قبل أنْ أموت ألا يقال أنني مُت". وكيف يموت شربل بعيني الشاعر والإنسان في ذاكرة الاجيال وهو القمر المُضيء الذي لا يعرف الكسوف.
عبرَ رحلة الثلاثين من العمر أدركت بوضوحٍ تام من كلّ المرموقين الذين ألتقيتهم في مجالات الحياة أنَّ الإنسانَ هو الإنسان مهما علا شأنه أو تواضع قدره، وأنَّ توزيع الأدوار في الحياة وتحقيق المنجزات قد جاء في الكثير من الأحيان عبثيًا وغير عادل، أما عن شربل بعيني فلا يسعني القول أنه يمضي والتوفيق مع خطاه. يحالفه الحظ، تخدمه الظروف دائمًا، يمشي النجاح في ركابه أينما حلّ، وهذه نعمة ربانية من جهة، ومهارة ذاتية من جهة أخرى.
لم يكتفِ شربلنا بالشعر والزجل والادب والنثر وكتابة النصوص المسرحية، بل كتبَ القصيدة المغناة للعديد من المطربين، نذكر منهم: هند جبران، ريما اليأس،وفاء صدقي، إسماعيل فاضل الذي غنى روائعه يا مصر، بغداد أنتِ حبيبتي[5] ، فافي.
عاصر زمنًا جميلاً أحتفظت فيه الكلمة بجلالها والفكرة بعمقها والنظرة بموضوعيتها، ولا غرو إن قلت: إنّه من زمن الشوامخ كجبران،ميخائيل نعيمة، سعيد عقل، الجواهري، عبد الوهاب البياتي و يحيى السماوي، الذي أطلق عليه لقب "عميد الأدب المهجري" في كلمة منشورة بموسوعة شربل بعيني بأقلامهم الالكترونية.
يُردد المرء في سرّه كلّما تقدم بالسنّ: آه لو كنتُ أعلم كيف يعيدُ الإنسانُ ماضـــيــــِه، لفعلت في الحال، أما هو وعلى مدار السنين لم تنقص قيمته ولم يهوَ جبل موهبته ولم يجف نهر إبداعه، بل أرتفع مقامه وكبر شأنه، فمازل في قمة القمم وأعلى الهرم. كلّما زاد عمره علت هامته. إذ سيظلّ شربل كبحر لا يمكن سبر أغواره، نكتشف فيه كلّ يوم اللآلىء والأسرار الخفيّة، ونظلّ بحاجة إلى مزيد من الغوص والتبحر لأكتشاف كنوزه الدفينة. ونظل بحاجة للنظر في فضاء أدبه الخالد للتحليق عاليًا، علنا نبلغ بعض أجوائه، ونستنشق قسطًا من أنسام عبير سُموّه.
شهادة للقرّاء أقولها هنا: سيبقى شربل بعيني في ضمير القارئ العربي قمرًا مضيئًا ونجمًا لامعًا، بل شمسًا ساطعة، لا ينساه رواد الكتب وكلّ من عرفوه عن قرب، ولا يغيب أبدًا عن ذاكرة لبنان بأعتباره البلد الذي جُبل من ترابه، ولا عن ذاكرة استراليا؛ المهجر الذي قضى فيه ثلثي حياته، وشهد أغزر نتاج أدبي جاد بعد أن أرتبط المشهد الثقافي العربي باسمه، واقترنت صوره الحديثة بإنجازاته الغنية، فالكثيرين يحملون شعلته المضيئة ويكنون المحبة والولاء لاسمه الكبير. أما أنا فأحني الرأس احترامًا لأسمه العريق وأجلالاً لشخصه البريء ولعطائه المتصل بالثقافة ودوره المرموق في تاريخ الأدب المهجري الحديث، قُبلة محبة عراقية أطبعها على جبين ذلك الارز الشامخ الذي يبدو لي ولغيري دائمًا "كالصائغ" يُنتقي الفصوص النادرة والمعادن الاصيلة والاحجار النفيسة ثم يصوغها للقارئ في حلةٍ قشيبة،
أَختم بالعودة إلى ما بدأتُ به:إنَّ من حق كلّ بلد وملة وجالية أن تزهو بعباقرتها وتتباهى بأدبائها وتفاخر بمبدعيها، ويحق لنا أيضًا ملة أدباء المهجرالأُسترالي أنْ نضعَ الأستاذ شربل بعيني على رأس مفاخرنا الأدبية في هذا العصر.
هذا قليل من كثير عن قديس الكلمة شربل بعيني الذي يقفُ منذ عقودٍ على قمة هرم الثقافة العربية في أُستراليا. سائلاً الله أن ينسج له بيد لطفه ثوب حياة لا يُبلى . الّلهمّ آمين.
[1] صدح صوته عام 1987 في مهرجان المربد الشعري الثامن في بغداد، فقال عنه الأب الأديب الدكتور المرحوم يوسف السعيد: "لقد هزّ شربل بعيني المربد الشعري". إذ وصل الحال أن يختم التلفاز العراقي على مدار اسبوع بطوله نشرة الأخبار بقصيدته التي طبقت شهرتها الأفق: "أرض العراق.. أتيتكِ". وأذكر للتاريخ،: إنّه أول شاعر مُعاصر ينشد قصائده في المربد بمزيج من اللهجة العامية اللبنانية والعربية الفصحى!! وهذا كان مُخالفًا لتقاليد المربد، ومع ذلك وقف الحضور أجلالاً له، هتفوا وطبقوا الاكف اعجابًا بقصيدته.
[2] أجد في نفسي اليد الطولى التي أعادت البعيني إلى الحراك الادبي والمشهد الثقافي من جديد بعد انقطاع طوعي معروف.
[3] لا تغيب عن ذاكرتي إنطباعات أصدقاء شربل عن تلك المرأة؛ فقد سمعت منهم خلال الجلسات ( الله يرحم أمك القديسة يا شربل). ولا أعلم أيّ صمت كان يراوده يوم باح لي بما يختلج في الاعماق: "ما أشتقتُ إلى شيءٍ في حياتي قدر أشتياقي إلى حضن أمي". لقد طبعت والدته اثرها في حياته أكثر من أيّ إنسان آخر. وإنْ كانت الحكمة تنص: وراء كلّ رّجل عظيم امرأة، وشربل كان وراءه سيّدة قديسة، رحلت عن عالمنا الفاني منذ سنوات خلت. عليها رحمة الله.
[4] أطلق هذه التسمية على شربل كلّ من الأب يوسف جزراوي والمخرج المسرحي موفق ساوا.
[5] القى شربل بعيني قصيدة "بغداد أنت حبيبتي" في مهرجان رابطة البياتي بتاريخ 17/6/2015 بسيدني، فنالت اعجاب الجمهور بعد أن حبس بالقائه أنفاسهم، ثمّ جوبهت بالتصفيق الحار، وهتف له بعض الحضور أنت عراقي. ومن ثَمَّ غناها الفنان العراقي إسماعيل فاضل.
أديب بديع التصوير، بليغ التعبير. ساهم قلمه في نشر الثقافة ورفع سقف الوعي لدى القارئ، مقتحمًا بقلمةِ وكلمته الكثير من الأبواب الموصدة، مُعالجًا بحنكته العديد من الموضوعات الشائكة.
له أطباع الجبال، أدبه جَمّ، مُستمد من نزعةٍ صوفية ونبالةٍ أخلاقية.منحه الناس تقديرًا عاليًا لحظة توهج شعره وتألق موهبته إلى زماننا هذا. نبراسًا للمحبة عنوانه في زمنِ شُحت فيه المبادئ وقحطت المحبة فأصبحتا غيضًا من فيضٍ،
موهبته في بدأت ، اينعت في بيروت، حتّى غدت شجرة باسقة عابرة للقارات. أخذَ بريقه بالالمعان منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي لتحويل المنفى القاحل إلى ظاهرة أدبية بين المغتربين. تغلبَ على قرف الغربة بالكتابة. أمتشق القلم مسبحة، شكلتها خرز الكلمات، كبَخور المعابد رائحة أفكاره، بادل الطعنات بالقبلات وهذا أعجب العجائب. آمّ منزله- متحفه في مدينة ميريلاندز بسيدني عدد كبير من أهل الفكر والقلم ورّجال الدين والاعلام ورؤساء الروابط والجمعيّات ومحبي الكلمة، حتّى أمسى أدبه قبلةً للشعراء وخبزًا للجياع.
أفردُ هذه الصفحات لشخصيّة قريبة إلى القلب محببة للنفس، مُحترمة من العقل. جمعتني به علاقة صداقة طيبة تغلفها علاقة التلميذ باستاذه والأبن بابيه الروحي، بل قلّ علاقة كاهن براهبٍ حكيم، كان دائمًا مثارًا أعجاب وتقدير.
أودُ في هذا الكتاب التعريف بنموذجٍ لبناني تخطى أدبه حدود العالم العربي ليُحلق إلى العالمية. مانحًا ثمار الإبداع ، ناشرًا عصارة الفكر وخلاصة الأحساس بأسلوبٍ سلسٍ شيقٍ، يخلو من التعقيد ويبتسم أحيانًا بروح الفكاهة والأمتاع. كتبَ بحبر القلب، أشعاره كالبلسم على الجرح النازف، مقالاته تلتصق بالعقول، أما دواوينه تنعش القلوب.
كنتُ ألتهمُ صفحات كُتبُه قبل سنوات خلت مع غيرها من روائع الأدب العربي والعالمي وتراث الفكر الإنساني مثل الكثيرين من أبناء جيلي الذين استهوتهم المطالعة الورقية على خلافِ الجيل الحديث والمعاصر الذي يميل بشدة إلى القراءةِ الالكترونيّة. خلال مطالعتي لمؤلفاته كان يشدني إليها أستغراقه الشديد في التغني بلبنان والعراق الذي يعد من البلدان العربية التي نال منها إنتشاره العربي عبرَ المربد الشعري . وما أدراكم ما المربد[1]؟
شاعرٌ ناصعٌ من طينِة الكبار،ربّما أختلف بعض النقاد حول آرائه وكتاباته، بيد الجميع أتفقوا على قيمته الفكريّة وقامته الأدبيّة مُثنين على هامته الانسانيّة. تسامى عن الصغائر. لم يُعادِ أحدًا أو ينافس شخصًا، لم يلهث يومًا وراء الجوائز والمناصب، ولم يتكالب على الأضواء، لا يضع العصا في طرقات الآخرين، بل كان سلمًا يرتقي الأخرين من خلاله المجد. إذ ليس المهم أن يمتلكَ الأديب الموهبة وحدها، لكن الأهم أن يُضيف إليها الشخصيّة الرصينة والجاذبيّة الإنسانيّة والخلُق القويم، يمزج الكلمات بالسلوكيات، فنحن في زمن بُتنا نصرخ فيه يا أيها الأديب كُن أديبًا خلوقًا!.
نموذجنا اليوم هو شربل بعيني الذي أرى فيه عصرًا كاملاً يسير على قدمين، لم تؤثر فيه سنوات الغربة الطويلة، ولا خطوب الزمان، ولم تنل منه ندوب الأحداث وطعنات المنافسين. الغريب حقًا في أدبه وملامح شخصيته أمساكه لميزان الكلمة بعدالة وحيادية قلّ نظيرهما في زماننا هذ!.
سنوات مضت من التألق والشهرة، حصد خلالها الالقاب والجوائز، لكنه ظلّ يتحسس في قرارة نفسه أنَ حاجةً واحدة تنقصه، وهي التقرب من الله، وها هو منذ سنوات يعشق الإختلاء،باحثًا متعمقًا. مُكرسًا نفسه كراهب في صومعة الكلمة الأزلية[2].
شربل كاهنٌ قربَ الكثيرين من الربّ. ترك أضواء العالم ساعيًا لنيل مجد السيّد المسيح ورضى الله، فهو "أبونا شربل بعيني" كما يحلو لي أن أُناديه أحيانًا، لا يُفاخر بقامته الأدبيّة ولا بخزائنه الشعريّة، بل يزهو بتقربه من الله الذي قاده إلى إنصاف من جعلوا من اعماقهم فرنًا للكلمة البنّاءة، سيظلّ المهجر الأسترالي يذكر له مواقف روحيّة وطلات إنسانيّة ونوادر أدبيّة لا تُنسى. هذه شهادة عادلة في زمن كثر فيه المزورون والأدعياء والمزيفون.
قرأت له وقرأت عنه، إلى أن بادرني صديق مشترك في ايار 2011 وهو الصحافي المعروف جوزيف بو ملحم ـ أبو أمين- برغبة صديقه الشاعر العربي الكبير شربل بعيني بالتعرف عليّ شخصيًا واجراء مقابلة تلفزيونية في مجلته (الغربة) الغرّاء، بعد مطالعته لكتابي الموسوم (خلجات الذات الجريحة ج2). فقلتُ له: يا فرحة ما بعدها فرحة؛ فمنذ سنوات وأنا أقرأ وأسمع عن "رسّام الكلمات" شربل بعيني ، شربل الذي رسم أجمل الصور الشعريّة واللقطات الإنسانيّة في كتاباته المُعبرة عن موهبته الفطرية ونضجه الحياتي. شربل الذي أمتدحه الشعراء الكبار: نزار قباني، عبد الوهاب البياتي والأب يوسف السعيد رحمهم الله.
ولمن لا يعرف، فأنَّ شربل كان من أشد المتأثرين بأبيه الروحي وملهمه الأدبي نزار قباني، سيّما بعد أن التقاه في بيروت عام 1968 واهداه باكورته الشعرية ديوان "مراهقة"، فنصحه شاعر العرب الأكبر بالإبتعاد عن العامية والكتابة بالفصحى، وربّما لا أكون مُخطئًا بالقول: إنَّ البعيني أستمد من الشخصيّة العراقيّة جزءًا كبيرًا من الذكاء الأدبي والقدرة على تصوير المواقف الشعرية من خلال تجربته في المراسلة مع الشعراء: الجواهري، الأب يوسف السعيد، عبد الوهاب البياتي، نزار حنّا الديراني. ولا غرابة في الأمر فعلى مرّ التاريخ شهدنا أزمنة عانقت فيها النخلة العراقية الباسقة الأرز اللبناني الشامخ.
رأيته للمرّة الأولى بجسده الضخم وصوته الجهورَيّ حين نهض من مقعده وأنتصب قائلا: "يا هلا بـالأبونا المفكر"؛ يوم التقينا معًا في غداء محبة وتعارف بأحد مطاعم مدينة ميريلاندز بسيدني في شهر تموز 2011، رفقة الشيخ د. مصطفى راشد والصحافيّ جوزيف بو ملحم الذي كنا في ضيافته المعهودة، فقلتُ له: يا محاسن الصدف! وأخيرًا التقيت أنا الكاهن البغدادي الهوى والمولدِ بالشاعر اللبناني الذي كرمه بلدي العراق حين صدح صوته وتغنى بأرض العراق في المربد الشعري سنة 1987؛ ذلك الشاعر الذي له جائزة عالمية تحمل أسمه، تصدر من دار الابجدية في لبنان.
وجدتُ نفسي أمام شاعر لا تشوب شاعريته غبار، وبجوار صرح أدبي عملاق! أملتُ سمعي إلى أحاديثه، أمعنتُ النظر فيه، تفرست في وجهه جيدًا وقرأت في عينيِه ما يختبىء في قلبِه من محبة وطيبة، إن لم أقل أحزان. إنقضت ساعة واثنتان، الإستماع إليه شيّق ومُفيد، يُنسيك وجبة الطعام التي أمامك؛ لبق الكلام،أحاديثه غذاء للفكر، واسع الثقافة. له القدرة على توليد النكتة والدعابة ، يبث نكاتًا بين الحين والآخر كأنها معزوفات موسيقية، أضفت على جو الجلسة رونقًا وجمالاً.
غادرنا المطعم، ولبيت دعوته لزيارة مقر مؤسسته العامرة (مؤسسة الغربة الإعلامية)، وما أن وطأت قدمي عتبة المؤسسة حتّى بانت أمامي في الحال أوسمة وجوائز وميداليات أدبية وهدايا لا تحصى من شخصيات أدبية، سياسية ومؤسسات ثقافية عديدة، ناهيك عن ما يزيد عن 60 كتابًا حصيلة 45 عامًا في رحلة الأدب الممتعة والشاقة.
وأذكر أننا حين برِحنا مكتبه نظر كلّ منّا إلى الآخر وقلت لهم: إنّه قيمة وقامة عالية، إذ ما رأيت في حياتي قدرة على موضوعيّة السرد مثل تلك التي تمتع بها هذا الرّجل، فهو يرد الأمور إلى أصولها ويتعقب الظواهر إلى أسبابها. ولعلَّ أهم الامور التي ينفرد بها عن الاخرين أنّه يصغي بتمعنٍ ومحبة، يستوعب الموضوع المطروح عليه، يرتب أفكاره قبل التفوه بكلمةٍ، يمتلك ناصية التأثير في الآخرين من خلال قفشات مُسلية في غير أوقات الجد، شديدة الجدية أثناءه. كان لقاءً أورق في النفوس حضورًا وصداقةً.
صديق رافقته ورافقني لسنواتٍ في السرّاء والضرّاء، أدركته خلالها: عزيز النفس، لطيف المعشر؛ الجلوس إليه صنعة، والحديث معه متعة، يجمع بين رقي الشخصيّة وعلو كعب الموهبة. له حضورٌ طاغيٌ أهله لأختراق العقول والقلوب في وقت واحد. الاقتراب منه اعترافٌ بمكانتِه وتأكيدٌ لقيمته وحفاوةٌ بعطائه المتجدد وتألقُه المتواصل.
وقد لحظت أيضًا أنَّ أتعاب الحياة طالته، راحته تبدو في وحدته. تظهر على وجهه ندبات الزمن وعلى شعره المنكوش دلالات العبقرية التي لا تخلو من مسحة كبرياء شخصي، إلّا أنه قريب من البسطاء والعامة في أوقاتٍ ومناسبات، له نوادر يعرفها أصدقاؤه المقربون فقط. حلت به أهوال حياتية وأزمات أدبية، لكنه يبدو سعيدًا ،مرحًا، قريبًا من القلوب في المناسبات التي يظهر فيها، وجيهًا في الأحاديث الخاصة والجلسات العامة. غير أنّي لمست فيه غصة دفينة وحزنًا خفيًا يتجليان ساعة يُقلب سجل الذكريات في صندوق الذاكرة، بيد أنّه لم يكن يومًا من أيام معرفتي به من ناشري مناخ الأحباط واليأس، بل على العكس من ذلك. تميز عن الآخرين بالصدق والطيبة والرغبة في المساعدة على نحوٍ اكتسب أحترام كلّ من حوله، فلا أنسى تلك الأمسية الأدبية المُصغرة التي جمعنني به في حديقة منزله العامر عام 2012 بمناسبة ذكرى ميلاده الحادي والستين بصحبة الصديقين الكابتن سعدي توما والاستاذ موفق ساوا، بعد تركي كنيسة مار توما التي كنت أخدم فيها بكلّ جوارحي، فرأيت أنْ أطرحَ عليه بعض همومي في جلسةٍ لم تخلُ من تبادل الهموم وأستعراض المشقات التي تعرض لها الحاضرون، فإذا به يعبر عن تقديره لشخصي ويزيد على ذلك رغبته في المساعدة ، وهو أمر لا أنساه له ما حييت.
تشرفت بمولده بلدة مجدليا بقضاء زغرتا شمال لبنان عام 1951، كان مولعًا بالقراءة منذ الطفولة، فاكتشف في سنّ صغيرة إنَّ علاقته مع الكلمة كانت كعلاقة الأرض بالماء. دبجت أنامله الذهبية أولى قصائده (قصيدة حرّة) نشرها بعمر 13 ربيعًا في إحدى المطبوعات بطرابلس، يقول مطلعها: (عربي ما دمت أنت عربي، فاخي أنت إبن أمي وأبي). أصدرَ ديوانه الشعري الأول وله من العمرِ 17 عامًا، وقد أنبهر أستاذه الراحل "جليل بحليس" بذلك المراهق، فأطلق عليه لقب "فرخ فيلسوف". يُعد ديوان (فافي) الذي نشره عام 2013 أخر مؤلفاته المطبوعة، تغنى عبر صفحاته بالشاعرة والاديبة المصريّة المعروفة فاطمة ناعوت.
إنَّ شاعرية الشاعر قد تكون سيفًا مُسلطًا على رقبته منذ ولادته الشعريّة، هذا ما حصل لشربل في زمن المراهقة، فهو لم يكن يعلم أنَّ ديوان "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة، لبنان 1970"، سينغص عليه الحياة، ويحرمه من لبنان ومن حضن الوالدة[3] التي كان لها الأثر الكبير في نجاحات ولدها الإنسانيّة والأدبيّة؛ ففي ليلة من ليالي مجدليا الحالكة الظلام، قصدَ خوري الضيعة بيت العائلة وأبلغ والدة شربل أنَّ ديوان "قصائد مبعثرة..." لم يرق لبعض أشباح المكتب الثاني اللبناني، وعلى شربل أنْ يرحل وألا سوف يرمونه في البئر!.
هرعت والدته تتوسله مُغادرة لبنان، لكن شربل أبى الرحيل في بادئ الامر، لأنه لم يخلق ليكون شتاتًا في الأرض. ونزولاً لتوسلاتها قرر الهرب إلى ضيعة بعيدة عن يد البطش. وهناك حصل ما لم يكن في الحسبان، فذات مساء دُعيَّ لألقاء قصيدة في مناسبةٍ حزبية أو وطنية على ما أذكر من حديثه، نالت المديح والإشادة، ومن شدة الأعجاب قام بعض الحضور باطلاق العيارات النارية أحتفاءً وأنطرابًا بقصيدته التي ألبت عليه المزيد من الاعداء، وحتمت عليه الهجرة من لبنان قسرًا.
هاجر لبنان عام 1971 قادمًا إلى أستراليا بعد أن حزم أمنياته في حقائب السفر، في منفاه وجدَ مساحات من الحرية في الرأي لم يألفها في باريس العرب - لبنان، فلبنان كان باريسًا للعرب بجمالِ أراضيه وناسه وليس بساسته.
في القارة النائية أمتهن شربل مهنة الحياكة أول الأمر، إلى أنْ عملَ في التجارة، فادرك كيف يجمع بين الأدب والتجارة؛ إذ مكنته التجارة من نشر نتاجاته الأدبية في المهجر الاسترالي، وقد أَلفَ المغتربون العرب أسمه كما أّلفوا الشهيق والزفير. كتبت عنه الصحف العربية وأُجريت معه شتى أنواع المقابلات الصحفية واللقاءات الإعلاميّة، بعد أن كتبَ الزجل والشعر الحرّ والعامودي والنثر والمسرح بتفوق. مُمارسًا فيما بعد رسالة التعليم في معهد سيّدة لبنان بعد مضيء عقدٍ من الزمن على دخوله سيدني، ألّف خلالها عشرات الكتب المدرسية التي تُدرس في مُعظم المدارس الحكومية والخاصة، وأنشأ على مدى ثلاثة وثلاثين عامًا كأستاذٍ للغة العربية أجيالاً من التلامذة في معهد سيدة لبنان- هاريس بارك، مُقيمًا العديد من المسرحيات المدرسية حتّى أنَّ فنان العرب دريد لحام أطلق شهقة تعجب يوم حضرَ إحدى مسرحياته. والحال، يبدو أنه عندما يوصد في وجهنا باب الوطن، تفتح الغربة أمامنا بابًا أخر، بيد يبقى على المرء كيف يهتدي إلى ذلك الباب الذي يُبشر بحياة جديدة، أقول هذا لكي يتخذ أيّ مُهاجر من شربل أنموذجًا للتماهي.
أغدقت عليه ألقاب كثيرة منها: أمير الأدباء والشعراء اللبنانيين في عالم الإنتشار، الأديب العبقري، شاعر المهجر الأول، سيف الأدب المهجري، ملاح يبحث عن الله، رسّام الكلمات، أسطورة الأدب العربي المهجري، شربل بقلوبنا[4]، مدرسة أدبية فريدة، شمس الأدب العربي المهجري!، ولا غرابة في الأمر فبين أنامله وريشة قلمه همس كثير وشعر أصفى من غلالات الربيع. حصدَ أيضًا منذ شبابه إلى يومنا هذا أنفس الجوائز التقديرية من رؤساء دول وشخصيات علميّة ودبلوماسية، كما نال تكريمات لا تحصى، فضلاً عن شيوع أعماله الأدبية وأنتشرها في الكثير من أرجاء المعمورة، بعد أن تُرجم البعض منها إلى لغات عدة، فأدبه وِجدَ لكي ينتشر ويدوم.
من أبرز جوائزه: جائزة جبران خليل جبران العالمية، جائزة الارز للأدب العربي، جائزة أمير الادباء اللبنانيين، جائزة الإبداع من مؤسسة العراقية للثقافة والإعلام في 8 اذار 2012 بسيدني،
درع الإبداع عام 2014 من وزارة الثقافة اللبنانية، وهذه هي المرّة الأولى التي تكرمه بلاده. درع البياتي وقلادة الإبداع في مهرجان رابطة البياتي الأول الذي احتظنته مدينة سيدني بتاريخ 17/6/2015. حصل أيضًا على جائزة القصيدة العمودية مناصفة مع الشاعر الكبير يحيى السماوي في أمسية الرابطة الثانية يوم الثلاثاء الواقع 22/9/2015.
أُدرج أسمه مع نبذة عن حياته ومقطفات من شعره في معاجم عالمية وعربية أهمها: معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين/ الكويت، موسوعة الشعر العامي اللبناني/ بيروت- لبنان. إضافة الى الموسوعة الانكليزية/ جامعة ديكن في ملبورن عن الأدباء الإثنيين في أستراليا.
تميز شربل بالمزاج المُتقلب والغضب السريع والنبرة الصوتية المرتفعة، لكنه سرعان ما يعود ويهدأ ويُلطّف الأجواء خلال دقائق معدوة، ولا يغمض له جفن إذا كان يعي أنَّ أحدًا قد أنزعج من كلمةٍ قد تفوه بها أو من سلوك أقدمَ عليه بغير قصدٍ، ليُعيد المياه إلى مجاريها بلطفٍ إنساني وكياسة عُهد بها. وخلال مرافقتي الشخصيّة له ومطالعتي لنسبة كبيرة من نتاجاته، وجدتُه يولي المرأة الواعية المبدعة أهتمامًا خاصًا وإحترامًا كبيرًا في حياته، وإنْ كان تعدد زيجاته نغص عليه مُتعة الحياة ورحلته الأدبية، رغم أنّه لا يزال يكنُ للمرأة نفس القدر من الإحترام والتقدير. وتلك على ما يبدو سمة تُصيب بعض المفكرين والأدباء الذين يجدون في تقدير المرأة ملاذًا من ضغوط الحياة ووطأة الفكر!. كما أنه يخفي وراء سطور كتاباته آراءً سياسيّة حبيسة ومواقف خفية ممّن يديرون المشهد السياسي بلبنان الجريح.
وفي زمن بات فيه الكثيرون ضيقّي الأفق في محبتهم للإنسان كإنسان، وجدتُ شربلاً تميزه البراءة، منسجمًا مع نفسه صادقًا مع الجميع، وفيًا للغير، مُلتزمًا بمحبة الناس. لا ينزعج من نجاحاتهم، يأخذ بيدهم إلى طريق المجد والإنتشار.
يقول ما يريد قوله دون مراوغة أو تمويه أو غش أو تملق...وقد علمني ونحن في هذا الزمن الرديء الذي يتوجب على المرء فيه أنْ يقول دائمًا ما يحب الآخرون أنْ يسمعوه، أنْ أقولَ كلمتي وأنْ أكونَ حُرّ الكلمة والمواقف حتّى لو وجهت لي سهام الغيرة والنقد، فعلى الأديب ألاّ يخشى لومة لائم ولا يهاب النقد الجارح غير الموضوعي.
ولا زالت لصيقة بذاكرتي تلك الكلمة التي شرفني بها في أمسية توقيع كتابي "المبدعون غرباء عن هذا العالم" بتاريخ 12/11/2011:" الملفتُ حقاً هو وفاءُ الكاهنِ يوسُف لِمَن ساعدَهُ من بعيدٍ أو قريبٍ، وهذا ما لم نَعُدْ نَجِدْهُ في هذا الزمنِ التعيسِ، زمنِ الوصوليّةِ والغدر، وهذا ما يُرَجِّحُ كَفَّةَ موعِظَتِه، ويجعَلُ المُتَلَقِّي يَرْضَخُ لها دون إدراكٍ منه".
في مطلع حياتي الأدبية وتحديدًا عام 2000 أسدى لي أستاذي الباحث الراحل الأب بطرس حدّاد، نصيحة مجانية مفادها: "أنت الآن دخلت وسطًا لا تفقه خفاياه ولا تدرك محنه جيدًا، لأنك في مقتبل العمر، ولكن أعلم يا بُني أنَّ الدخول في رحاب هذا الوسط أشبه بتسلق الجبل، كلّما تقدمت خطوة نحو القمة تأتيك ركلّة تعيدك إلى الوراء عدة خطوات". ولقد وجدتُ صدى لتلك النصيحة في حياة الكبير شربل بعيني، فكما أنَّ ذكاءَ المرء محسوب عليه فإنَّ تألق الأديب أو أيّ مبدع في شتى المجالات يكون خصمًا له. وفي تاريخنا العربي على مرّ العصور أيقنا دائمًا: ويل لمن تطول قامته أكثر من اللازم! كما أختبرنا في محيطنا الشرقي كلّما كثرت الأضواء على شخص ما، كلّما كثرت حاجته لسيارات الأسعاف!. وقد أصابتني دهشة وصلت إلى حدِ الذهول، حين قرأت كيف تناولت سهام النقد الموضوعي وغير الموضوعي أدبه وشخصه، رغم أنه لم يتردد أو يخشَ من نشرها إيمانًا منه بحرية الرأي الآخر،مقتنعًا بعدالة الزمن الذي يُعده الحكّم النهائي والرقيب المطلق على نتاج الأديب، فللأسف أنَّ لغة التكفير والتنابذ غدت من مقومات النقد وتناكف الحوار لدى البعض منّا. وكما أنَّ الشيء بالشيء يذكر، فإنَّ البعض من منتقديه عاد وأمتدحه وأثنى على شخصه وأدبه، أما البعض الآخر فلم يعدل عن رأيه إلى الآن. هذا هو حال شربل دائمًا، كالشجر يرميه الناس بالحجر فيرميهم بالثمر، ولا عجب، لأن المعادن الطيبة لا تصدأ أبدًا، وإنَّ شموخ الرِّجال العظام يجعلهم كالأشجار الطيبة الثمار، واقفين باسقين حتّى نهاية رحلة العمر.
حقق شربل أمورًا كثيرة، وأخفق في أمورٍ أُخرى شأنه شأن سائر البشر، لأن الشاعر إنسان في أخر المحصلة؛ فالرّجل كان يطمح إلى الأبوة ولم يحظَ بها، وذات يوم أسرّ إليَّ بأمنيةٍ لا تزال تؤرقه ومفادها: "لو مَنّ الله عليّ بالأبوة لتمثلت بأبي". لكنه عاد وهمس لي بنبرة الإتكال على المشيئة الربانيّة: "لتكن مشيئتك يا ربّ".
أغتنمت الفرصة وسألته في إحدى الجلسات: لو عاد الزمن بك إلى الوراء هل ستمتشق قلمك مرة أُخرى وتجعله يعانق الورق؟ أجابني بسرعة وأنفعال: "نعم، وسوف أكتب أكثر ممّا كتبت، لان الله كلمة، والكلمة لا تموت أبدًا".
من مقولاته البليغة والخالدة: (العقل دائمًا يغلب البندقية شرط ألا يستسلمَ ). (البخيل إنسان يموت مرتين ليعيش ورثته من بعده). (الأديب الذي يستعطي الناسَ من أجل نشرِ أدبهِ سينشر الناس أدبه على السطوح)،(الغرور داءٌ قاتلٌ لا يفتكٌ إلّا بصغارِ العقول).(معظم الذين يحبون الجلوس على طاولات الشرف بلِا شرف).
برعَ شربل في موهبة الخطابة متميزًا على أقرانه، حتّى أطلق عليه البعض (ملك المنبر)( المايكرفون)، ولا شك أنَّ براعة الخطيب والشاعر أو أيّ متحدّث مهما علا قدره تتحدد في قدرته على الإيجاز وصياغة الفكرة العميقة في كلماتٍ قليلة وباسلوبٍ سلس والقاءٍ يشدّ الآخرين إليه. وقد تعلمت منه كيف أقف أمام المرآة وأتلو كلمتي خلال فترة زمنية لا تتجاوز الخمس دقائق قبل أنْ أعتلي خشبة المنبر! ولا تزال نصيحته تصول وتجول في ذاكرتي: " يا أبونا تذكر أنَّ المتحدث الذي يكثر الكلام من المنبر، يضجر من حاله قبل أنْ يضجر منه الآخرون". فهو والحق يقال ليس مُصابًا بمرض الاسهال الخطابي، كالذين يعتلون المنصة دون أن يتقيدوا بالوقت المحدد لهم.
أما عن وصيتهِ فقد كتب: "وصيتي قبل أنْ أموت ألا يقال أنني مُت". وكيف يموت شربل بعيني الشاعر والإنسان في ذاكرة الاجيال وهو القمر المُضيء الذي لا يعرف الكسوف.
عبرَ رحلة الثلاثين من العمر أدركت بوضوحٍ تام من كلّ المرموقين الذين ألتقيتهم في مجالات الحياة أنَّ الإنسانَ هو الإنسان مهما علا شأنه أو تواضع قدره، وأنَّ توزيع الأدوار في الحياة وتحقيق المنجزات قد جاء في الكثير من الأحيان عبثيًا وغير عادل، أما عن شربل بعيني فلا يسعني القول أنه يمضي والتوفيق مع خطاه. يحالفه الحظ، تخدمه الظروف دائمًا، يمشي النجاح في ركابه أينما حلّ، وهذه نعمة ربانية من جهة، ومهارة ذاتية من جهة أخرى.
لم يكتفِ شربلنا بالشعر والزجل والادب والنثر وكتابة النصوص المسرحية، بل كتبَ القصيدة المغناة للعديد من المطربين، نذكر منهم: هند جبران، ريما اليأس،وفاء صدقي، إسماعيل فاضل الذي غنى روائعه يا مصر، بغداد أنتِ حبيبتي[5] ، فافي.
عاصر زمنًا جميلاً أحتفظت فيه الكلمة بجلالها والفكرة بعمقها والنظرة بموضوعيتها، ولا غرو إن قلت: إنّه من زمن الشوامخ كجبران،ميخائيل نعيمة، سعيد عقل، الجواهري، عبد الوهاب البياتي و يحيى السماوي، الذي أطلق عليه لقب "عميد الأدب المهجري" في كلمة منشورة بموسوعة شربل بعيني بأقلامهم الالكترونية.
يُردد المرء في سرّه كلّما تقدم بالسنّ: آه لو كنتُ أعلم كيف يعيدُ الإنسانُ ماضـــيــــِه، لفعلت في الحال، أما هو وعلى مدار السنين لم تنقص قيمته ولم يهوَ جبل موهبته ولم يجف نهر إبداعه، بل أرتفع مقامه وكبر شأنه، فمازل في قمة القمم وأعلى الهرم. كلّما زاد عمره علت هامته. إذ سيظلّ شربل كبحر لا يمكن سبر أغواره، نكتشف فيه كلّ يوم اللآلىء والأسرار الخفيّة، ونظلّ بحاجة إلى مزيد من الغوص والتبحر لأكتشاف كنوزه الدفينة. ونظل بحاجة للنظر في فضاء أدبه الخالد للتحليق عاليًا، علنا نبلغ بعض أجوائه، ونستنشق قسطًا من أنسام عبير سُموّه.
شهادة للقرّاء أقولها هنا: سيبقى شربل بعيني في ضمير القارئ العربي قمرًا مضيئًا ونجمًا لامعًا، بل شمسًا ساطعة، لا ينساه رواد الكتب وكلّ من عرفوه عن قرب، ولا يغيب أبدًا عن ذاكرة لبنان بأعتباره البلد الذي جُبل من ترابه، ولا عن ذاكرة استراليا؛ المهجر الذي قضى فيه ثلثي حياته، وشهد أغزر نتاج أدبي جاد بعد أن أرتبط المشهد الثقافي العربي باسمه، واقترنت صوره الحديثة بإنجازاته الغنية، فالكثيرين يحملون شعلته المضيئة ويكنون المحبة والولاء لاسمه الكبير. أما أنا فأحني الرأس احترامًا لأسمه العريق وأجلالاً لشخصه البريء ولعطائه المتصل بالثقافة ودوره المرموق في تاريخ الأدب المهجري الحديث، قُبلة محبة عراقية أطبعها على جبين ذلك الارز الشامخ الذي يبدو لي ولغيري دائمًا "كالصائغ" يُنتقي الفصوص النادرة والمعادن الاصيلة والاحجار النفيسة ثم يصوغها للقارئ في حلةٍ قشيبة،
أَختم بالعودة إلى ما بدأتُ به:إنَّ من حق كلّ بلد وملة وجالية أن تزهو بعباقرتها وتتباهى بأدبائها وتفاخر بمبدعيها، ويحق لنا أيضًا ملة أدباء المهجرالأُسترالي أنْ نضعَ الأستاذ شربل بعيني على رأس مفاخرنا الأدبية في هذا العصر.
هذا قليل من كثير عن قديس الكلمة شربل بعيني الذي يقفُ منذ عقودٍ على قمة هرم الثقافة العربية في أُستراليا. سائلاً الله أن ينسج له بيد لطفه ثوب حياة لا يُبلى . الّلهمّ آمين.
[1] صدح صوته عام 1987 في مهرجان المربد الشعري الثامن في بغداد، فقال عنه الأب الأديب الدكتور المرحوم يوسف السعيد: "لقد هزّ شربل بعيني المربد الشعري". إذ وصل الحال أن يختم التلفاز العراقي على مدار اسبوع بطوله نشرة الأخبار بقصيدته التي طبقت شهرتها الأفق: "أرض العراق.. أتيتكِ". وأذكر للتاريخ،: إنّه أول شاعر مُعاصر ينشد قصائده في المربد بمزيج من اللهجة العامية اللبنانية والعربية الفصحى!! وهذا كان مُخالفًا لتقاليد المربد، ومع ذلك وقف الحضور أجلالاً له، هتفوا وطبقوا الاكف اعجابًا بقصيدته.
[2] أجد في نفسي اليد الطولى التي أعادت البعيني إلى الحراك الادبي والمشهد الثقافي من جديد بعد انقطاع طوعي معروف.
[3] لا تغيب عن ذاكرتي إنطباعات أصدقاء شربل عن تلك المرأة؛ فقد سمعت منهم خلال الجلسات ( الله يرحم أمك القديسة يا شربل). ولا أعلم أيّ صمت كان يراوده يوم باح لي بما يختلج في الاعماق: "ما أشتقتُ إلى شيءٍ في حياتي قدر أشتياقي إلى حضن أمي". لقد طبعت والدته اثرها في حياته أكثر من أيّ إنسان آخر. وإنْ كانت الحكمة تنص: وراء كلّ رّجل عظيم امرأة، وشربل كان وراءه سيّدة قديسة، رحلت عن عالمنا الفاني منذ سنوات خلت. عليها رحمة الله.
[4] أطلق هذه التسمية على شربل كلّ من الأب يوسف جزراوي والمخرج المسرحي موفق ساوا.
[5] القى شربل بعيني قصيدة "بغداد أنت حبيبتي" في مهرجان رابطة البياتي بتاريخ 17/6/2015 بسيدني، فنالت اعجاب الجمهور بعد أن حبس بالقائه أنفاسهم، ثمّ جوبهت بالتصفيق الحار، وهتف له بعض الحضور أنت عراقي. ومن ثَمَّ غناها الفنان العراقي إسماعيل فاضل.
**
بين لعنة الله علينا وعنترة وسياسة البسطال
مقتطفات من مقال طويل
نحتاج الى جهد جهيد، لتحطيم هذه السياسات التي نشأنا عليها عقوداً من الزمن واصبحت بمثابة قناعة خاطئة مُتجسدة في سلوك يُعقد حياة الإنسان العربي ويملأه بالعقد والمخاوف....
قال الشاعر السوري العربي الأكبر نزار قباني: "الشعب مثل الطفل الصغير يرضى بقطعة حلوى"، ونشر الحقائق في قصيدته (عنترة) وحذا حذوه الشاعر اللبناني العربي الكبير شربل بعيني في رائعته: قصيدة (لعنة الله علينا).
نعم نحن كشعوب قبلنا بسياسة الصمت امام عنترة بلدنا وسياسة (البوت – البسطال العسكري)، وكان الكثيرون منا يهتفون امام (عنترة) القائد المفدى(يعيش.. يعيش) وفي اعماقهم يهمسون (لعنة الله عليه)! وبسبب سياسة معظم حكامنا العرب (سياسة فرق تسد... ناهيك عن سياسة التمييز الطائفي والعشائري...) بتنا في وضع لا يتقبل الآخر بسهولة، فصار لدينا مخاوف من الإنفتاح على الآخرين خوفًا من وشايتهم علينا، فاغتيلت فينا قناعة النطق بكلمة حق.
2013
**
نحتاج الى جهد جهيد، لتحطيم هذه السياسات التي نشأنا عليها عقوداً من الزمن واصبحت بمثابة قناعة خاطئة مُتجسدة في سلوك يُعقد حياة الإنسان العربي ويملأه بالعقد والمخاوف....
قال الشاعر السوري العربي الأكبر نزار قباني: "الشعب مثل الطفل الصغير يرضى بقطعة حلوى"، ونشر الحقائق في قصيدته (عنترة) وحذا حذوه الشاعر اللبناني العربي الكبير شربل بعيني في رائعته: قصيدة (لعنة الله علينا).
نعم نحن كشعوب قبلنا بسياسة الصمت امام عنترة بلدنا وسياسة (البوت – البسطال العسكري)، وكان الكثيرون منا يهتفون امام (عنترة) القائد المفدى(يعيش.. يعيش) وفي اعماقهم يهمسون (لعنة الله عليه)! وبسبب سياسة معظم حكامنا العرب (سياسة فرق تسد... ناهيك عن سياسة التمييز الطائفي والعشائري...) بتنا في وضع لا يتقبل الآخر بسهولة، فصار لدينا مخاوف من الإنفتاح على الآخرين خوفًا من وشايتهم علينا، فاغتيلت فينا قناعة النطق بكلمة حق.
2013
**
تهنئة من الاب الاديب يوسف جزراوي
إلى نهر المحبة وارز الإبداع
حضرة الأديب الكبير شربل بعيني ذي القلب المفتوح حُبًّا
وصدقًا
وتعليمًا
وتواضعًا
وبراءةً،
وهل هُناك من ضحكةِ محبة أكثر براءةً من تلك التي يطلقها البعيني.
إنّك قلم المطافئ
ومركز الثقل في أدبنا المهجري الأُسترالي
وحجر الزاوية في جلساتنا الثقافيّة
وسقف الوعي في احاديثنا
وندواتنا الأدبيّة.
مبارك التكريم المستحق،
دمت نهر إبداع،
ضفتيه القلم والمحبة.
ألف مبروك.
أطال الله بعمرك
وامدك بصحةٍ لا تبلى.
آمين.
تلميذك وإبنك الروحي دومًا
**
**