كيف أينعت السنابل؟ ديوان شربل بعيني/ الأخت ارنستين خوري

شاعرة دير راهبات العائلة المقدسة المارونيات
   السنابل اليانعة تعرف أن تعطي الثـمر، ولكنّها لا تعي كيف نمت، ولا كيف أينعت.
   وهكذا شربل بعيني، شاعر الغربة الطويلة وصاحب الدواوين العديدة. ينظم الشعر كما يغرّد العصفور، وتشعّ الشمس بالنور، وتخرّ المياه المنسابة بين الخمائل.
   هو رائد من روّاد الشعر الحديث. لا يتقيّد بالأوزان التقليديّة، ولا بوحدة القوافي. يعتمد في النظم على حسّه المرهف، وأذنه الموسيقيّة، وخياله المبدع.
   شعره سلسلة إيقاعات تتنوّع بتنوّع الإنفعال، وصوره طريفة خلاّبة تصوّر الواقع، وتسمو به بواسطة الخيال المبدع، ولغته بسيطة واضحة أقرب إلى العاميّة منها إلى الفصحى. تخشن لتستوعب النقمة والثورة، وتلين لتعبّر عن لواعج الألـم والحنين.
   واعتماده اللهجة المحكيّة في الكتابة مردّه البعد عن الوطن الأم، وتوخّيه جعل الشعر في متناول الجماهير منهل الوحي وسرّ الخلود.
   في القصيدة الواحدة نقع على مقاطع كأنّها سرد حديث صحفي، ولا نلبث أن ننتقل إلى البديع الرائع فكراً وأسلوباً، إيقاعاً وتصويراً. وفوق هذا كلّه تسيطر صورة الفنّان البارع الذي يمس الكلمات العاديّة بأنامله السحريّة فتستحيل أوتاراً وألحاناً.
   فإلى الأمام، شاعرنا الموهوب، إلى بناء مدرسة جديدة تعرف باسمك، وينتمي إليها الكثيرون من هواة الشعر الحديث الذين ما زالوا تائهين. إلى التحرّر من قيود الأوزان التقليديّة ولكن لا إلى الفوضى. إلى التزام الإيقاع المتغيّر مع الإنفعال . إلى تخيّر الألفاظ وسلامة التركيب. إلى الجماليّة في الشعر التي لا تتوقّف على الموضوع بل على براعة التصوير.
   إلى هذا المستوى أنت مدعو لتكون رائد الشعر الحديث في ديار الإغتراب. وتمثّل بالشاعر والكاتب الفرنسي الشهير "فلوبير" الذي كان يعتني بالجملة كأنّها بيت شعر، وببيت الشعر كأنّه قصيدة. وتذكّر أن الشهرة لا تتوقّف على كميّة الإنتاج، بل على نوعيّته وجودته.
الجامعة اللبنانية ـ بيروت
**
دهشتي كبيرة
   بكل سرور استلمت كتابك الرائع "السنابل اليانعة"، وكانت دهشتي كبيرة عندما قرأت على الغلاف مقتطفات من تقييمي لشعرك الحرّ الحديث، مرآة نفسك الشفّافة التوّاقة لتحطيم القيود، وارتياد القمم من كل القيم في عوالـم الحق والخير والجمال.
   ما زلت أذكر الأيام التي قضيتها بينكم في أستراليا. كل ما حولي كان جميلاً، ولكنّ نفسي كانت غارقة في بحر الأحزان، وقد وجدت تعزية كبرى بما أبديتموه لي من الألطاف والاهتمام.
   أنا اليوم، بالرغم من الفراغ الكبير الذي يملأ نفسي، أواصل تعليم الأدب نثراً وشعراً في الجامعة اللبنانية. والتعليم، صدّقني يا شربل، ساعدني كثيراً في التغلّب على الحزن المميت. إنه عطاء الروح فيه ننسى ذواتنا وعالمنا المظلم، ونطلّ على آفاق جديدة في دنيا الآمال والأحلام. أنت أستاذ، ولا شك أنك اختبرت ما أقول.
   أملنا كبير أننا بعد ليالي الحروب الطويلة التي عانيناها، سيشرق علينا فجر السلام والحريّة، فنعود نجتمع وإيّاكم في لبناننا العزيز، لبنان جديد مبني على دعائـم المحبّة والإخاء والحق والعدالة".
28/6/1987
**
آه يا شربل
   وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر..
   وقبل رجوع الأخوات إلى أستراليا بثلاثة أيّام وصلني كتابك، ولمّا نزل نرتجف هلعاً، وندمع أسى لِما سمعناه من دويّ المدافع وانفجار القنابل، ولِما رأيناه من دمار وخسائر في الأرواح والممتلكات شملت العديد من مدارسنا. فرُحنا نسأل ونتفقّد متخوّفين من الأعظم. هذا والقسم الكبير من اللواتي ذهبن إلى الرياضة بقين محبوسات في دير الأم في عبرين، بسبب إغلاق المعابر والتعرّض للأخطار.
   هذه هي الحال في لبنان (يا قطعة سما)، حوّلناه إلى لبنان (يا صورة جحيم)، يا بحر العواصف والظلمات، وملتقى القراصنة والطغاة.
   ملاّحون نحن تائهون. باسم اللـه نتقاتل ونتخاصم، وباسم الوطن نتعادى ونتقاسم. نفتّش عن اللـه ، ونحوّل وجهنا عن الإنسان أخينا، إبن اللـه، وصورته، وعمل يديه!. نطالب بالعدالة والإنصاف ونغتصب أموال غيرنا. ننادي بالحريّة ونبيع الإستقلال والكرامة بحفنة من المال، أو بمنصب في المستقبل!
   آه يا شربل متى تزول الغشاوة عن أعيننا، فنعرف الحقيقة والحقيقة تحرّرنا.
   النار تأكل نفسها إن لـم تجد ما تأكله، وفرّق تسد.. لقد ربح المراهنون على تفريقنا، فقد أصبح الأخ يقاتل أخاه، والإبن يحارب أباه. هذا ما جرى ويجري اليوم، فمتى يتراءى المخلّص ليزدجر الرياح، ويقول للبحر: اسكن، اصمت. فيعود الصفاء وينشر السلام. وتعود يا شربل إلى الوطن الذي تركت، لنغنّي معاً نشيد المحبّة في مهد المحبّة.
  لا لن نيأس، ولن نستسلم لأنبياء الشؤم. سنقاوم حتّى النهاية دعاة الشرّ والتقسيم والتباغض. قدرنا بيدنا، ولو دفعنا الثـمن بالأموال والأرواح. سلاحنا إيماننا باللـه وبالوطن. باللـه أب لجميع البشر، وبلبنان وطن للإنسان كلّ إنسان.
   سندافع عن مبدإنا وعقيدتنا بأسيافنا وأقلامنا، مقيمين كنّا أم مغتربين، وشعرك يا شربل يرى فيه القارىء صرخة حقّ، ورجع حنين، وإشراقة أمل.
   بثورتك على الظلم تثور على الشرّ وتنتصر للخير، وبتوقك للحقّ والجمال تفتّش عن اللـه، ولن تجده إلاّ في سماء نفسك، وقد تنقّت بنار المحبّة لتذوب شفقة على صالبيها، فتهتف مع المسيح: اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يعلمون ما يصنعون.
   فلننسَ الإساءة، ولننادِ بالصفح وبالتسامح، فلا بدّ لليل أن ينجلي، وللصبح أن ينبلج، وتعود من جديد تسطع فوق أرض لبنان شمس المحبّة والحريّة. وتعود يا شربل إلى الوطن الأم ترنّـم بالعود والكنّارة أناشيد المجد والإنتصار.
21/2/1989
**
إبن لبنان البار
   هي فرصة سعيدة أغتنمها لأكتب لك مع الأخت الحبيبة كونستانس، وقد طمأنتني إلى أحوالك، وبلّغتني سلامك، ونقلت لي ما يفرح القلب عن مدى إخلاصك، وتعدّد نشاطاتك، وتألّق شاعريّتك، وازدياد شعبيّتك. فإلى الأمام يا إبن لبنان البار، نحن بحاجة إلى أمثالك، إلى المجاهدين في سبيل الحقّ والوطن. وأنا كما عرفتني لا أزال على يقيني أن الآلام الكبيرة تصنع الرجال العظام. وأنت أنت، كما عرفتك، من معدن الذهب الإبريز المصفّى في بوتقة المحن. فاللـه معك، والمجد بانتظارك، وإن للحق لا للقوة الغلبة.
   أنا ما زلت أعلّم في الجامعة، وهذه السنة كانت متعبة جداً. عشنا تحت القذائف في الملاجىء، نعدّ الأيام والشهور. والآن نعمل لإنهاء برامج السنة الماضية، لنبدأ السنة الجديدة في أوائل آذار، إذا لـم نباغت بما لـم يكن بالحسبان!. وما أدرانا ما تخبّئه لنا حرب الخليج من تطوّرات وانعكسات!.
   لقد أرسلت لك مع الأخت كونستانس نسخة عن آخر قصيدة نظمتها في 15 آب، عيد السيّدة، بمناسبة زيارة السيد البطريرك لدير العائلة في عبرين، بصحبة وفد من الأساقفة، وذلك لتقبّل نذور الراهبات. وهذه أوّل مرّة يحضر نذورنا، من أيام العزّ الذي عرفته الجمعيّة في عهد القديس البطرك الحويّك. وكانت مناسبة لنا للتعبير عن الآمال التي كنّا وما نزال نعقدها على بكركي والبطركيّة حاملة مجد لبنان، والقلب ملآن من الآلام والأحزان والمخاوف، ففاضت القريحة ونظمت ما نظمت، وما من أحد من البعيدين أو القريبين إلاّ وطلب الحصول على هذه القصيدة. وكما قالت حضرة الأم العامّة: وزّعنا قصيدتك كما نوزّع كتاب مار أنطونيوس. فاقرأها واذكرني.. وتجد أيضاً بعض أناشيد على ألحان فيروز، نظمناها خاصّة في هذه المناسبة. وأخبرك أيضاً أنني قضيت الصيفيّة في عبرين أدرّس الراهبات الفلسفة، وهنّ الدارسات اللواتي هربن من مختلف المدارس، هربن مثلي من جحيم المعركة، بعد أن تحمّلن الكثير الكثير، واستولى عليّ وعليهنّ الرعب. والحمد للـه تقدّمن إلى الإمتحانات الرسميّة في آخر هذه السنة، أي في كانون الأول، ونجحن كلّهن بدرجة جيّدة. فمن الشعر، إلى الفلسفة، إلى الأدب المقارن، اليوم عدت أعلّمه بالجامعة، أعانني اللـه وإيّاك على القيام باستمرار في هذه الرسالة المقدّسة".
25/1/1991
**
سيعود لبنان
استلمت كتبك الشعريّة الغالية الرائعة، وقرأت على صفحاتها الأولى مشاعرك الصادقة نحو أخت تبادلك التقدير والاحترام والإعجاب، وتعاني ما عانيته بدورك على أرض الوطن وفي ديار الغربة.
   إننا ما زلنا نعيش في مهبّ الرياح العاتية، التي تطلع علينا كل يوم من الداخل ومن الخارج. نصارع قوى الشرّ الرهيبة، آملين بالنصر، مؤمنين بأن للحق لا للقوّة الغلبة.
   ولكن متى؟ وكيف؟ أللـه أعلم... وهو أبداً سيد التاريخ!... ونحن نردّد مع صاحب المزامير: يقوم اللـه يقوم ويتبدّد أعداؤه. هذا هو إيماننا، وهذا هو رجاؤنا، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
   سيعود لبنان يا شربل بعيني، وسيعود إليه المهاجرون المخلصون أمثالك، ليساهموا في انبعاث الحريّة والعدالة.
   استمر على ما أنت عليه من محاربة الظلم بسلاح الكلمة، فهي سيفٌ ذو حدّين، يحطّم ولا يتحطّم.. عسى أن تتحقّق الأحلام ونلتقي قريباً، ونحن متلاقون دوماً في الأهداف والمشاعر والآمال.
   أرجو لك موسماً حافلاً بالإنتاج الشعري الثـمين، واسأل اللـه أن يباركك، ويحفظك بعافيته الإلهيّة، فتهون المصاعب، وتتحقّق الأماني.
   لك شكر خاص على نشرك قصيدتي في استقبال غبطة البطريرك في عبرين، على صفحات صحف أستراليا. هذا من زيادة حبّك ولطفك.
عبرين ـ لبنان
**