شربل بعيني.. شاعر المهجر الأول/ أيوب محمد ايوب

سكرتير رابطة إحياء التراث العربي الأسبق

   يحق للعربي في هذه الديار أن يفخر بشربل بعيني، الشاعر اللبناني الأصيل، ليس لأن أشعاره تأتي سلسة عذبة، يسكب من خلالها معاناته في إناء أنيق فحسب، بل لأنه يعصر فيها قلبه، ويحبك من وهج شرايينه قصائد يفرغها في قلب القارىء، ليعطيه طاقة روحيّة، ويترجم له أحاسيسه ومعاناته، مقدّماً له كأساً من الشعر فيها نجواه وشكواه، فشعره ليس نجوى، وليس صدى لمعاناة "الأنا"، بل هو صوت القارىء ولسانه أيضاً، وبذلك يثبت شربل، عن جدارة، أنه شاعر المهجر الأوّل في أوستراليا.
   حينما قرأت على صفحات جريدة "صوت المغترب" الغراء ما جادت به قريحة الشاعر في قصيدته الملحمة "كيف أينعت السنابل؟" حدثتني نفسي ان اكتب معقباً على بعض لوحاتها الشعرية، ليس تقريظاً للشاعر بل انصافاً له واقراراً بالحقيقة.
    فملحمته التي تحكي قصة شعب باسم تمينه، صيغت بعناية كبيرة، فجاءت وكأنها قطعة فنيّة متوهجة وصل من خلالها الى قلوب محبي الشعر من ابناء هذه الجالية العربية في هذه القارة، ليس هذا فحسب، بل ان "كيف اينعت السنابل؟" تحفة وطنية، وينبوع انسانية، او قل انها صرخة مدوية اطلقها على السنة ابناء امته، هازئاً بصانعي المؤامرات، حيث يقول:
ميشال بعيني، طنسا بعيني: الجد، وشربل بعيني
..إِنَّ الَّذِي صَارَ وما سَوْفَ يَصِيرْ
خِطَّةٌ مَدْروسَةٌ هَنْدَسَها عَقْلٌ كَبيرْ
أَشْرَكَ فِيها الْيَهودَ وَشَرْقَنا الْعَرَبِيَّ كُلَّه
وَسَخَّرَ ، لِنَجاحِها ، التِّلْفَازَ وَالْجَرائِدَ
وَكُلَّ مِنْ يَكْتُبُ حَرْفاً في مَجَلَّه..
لكنَّني ما زِلْتُ لا أَدْرِي:
لِمَاذا شَوَّهوا الطِّفْلَ الصَّغيرْ؟
   توقفت قليلا عند هذا المقطع محاولا ترجمة احاسيسي من خلال هذه الابيات لأجد الحقيقة ماثلة امامي، أتعرّف اليها كلما امعنت في قراءة الاسطر، وأمعنت النظر الى الاحرف التي صيغت منها الكلمات بالوانها الزاهية احياناً، القاتمة في أحيان، فاجد الوصف الرائع لما يحدث على ارض لبنان من بشاعة المؤمرات الدولية، حيث يعملون ـ كل ألأطراف ـ بوعي وبغير وعي، على تمريرها بتجنيد الطاقات الهائلة التي تقاتل بعضها بعضاً دون اي محاولة لتفكيك رموز المؤامرة، ومعرفة نهاية مطافها. 
   ويتابع شاعرنا ابياتها اللاهبة:
وَلِمَاذا شَرَّدُوني، يا حبيبـي،
دُونَ عَوْنٍ أو مُجيرْ؟
وَلِماذا أَيْبَسوا الأَزْهارَ وَالأَشْجارَ
ثُمَّ صادَروا ماءَ الغَديرْ؟
وَلِماذا قَتَلوا في ساحَةِ الأَرْقامِ
مَلْيُونَ شَهيدْ؟!
كُلُّ هذا كيْ يَصيرَ الْمَوْتُ دَوْلَه
تَرْتَمِي، كَالْعارِ، في حِضْنِ أَمِيرْ؟!!
عَيْبٌ عَلَيْكُمْ ـ سادَتي ـ
أَنْ تَخْلُقوا مِنْ رَحْمِ طِفْلَه
قصراً..
وَجَيشاً مِنْ عَبيدْ
وَنِساءً لِلسَّريرْ!!..
   بعد ان تخطى شاعرنا المرهف ابعاد المؤمرة مظهراً تفهمه لحقيقة ما يجري على الساحة، وهذا بالطبع رأيي الخاص وتحليلي للأسباب التي حدت بهذا الشاعر كي يقذف هذه الكرة الملتهبة شعراً يتراقص المنطق على ابياته، كأنه يقول وهو متدثر ثوب الانسانية: حرام عليكم، اذا اردتم خلق دولة، فما ذنب تلك الطفلة، والمفرد هنا يحمل في المعنى صيغة الجمع: لماذا تشردون وتعذبون من اجل استعادة ارض بطريقة الخزي والعار، كونها مؤامرة لحلول استسلامية.
   القصيدة طويلة وابعادها بعيدة لا يمكن اختصارها بمثل هذا التعقيب القصير، لكنني اكتفي بذلك بعد ان تناولها بالنقد والتشريح الكثيرون من اهل الفكر والادب، فاجاد منهم من اجاد، وتجنى من في نفسه مثل تلك الغاية.
    ويتحفنا شربل برائعة جديدة هي "وريقات دفتر الغربة" يجعلنا بها، لروعتها، ننسى تلك المعاني التي تضمنتها "كيف اينعت السنابل؟"، لنبحر معه في بحر غربته على وريقات من دفتر غربته:
إيهِ يا أرضَ بلادي
كَمْ تحمَّلْتُ الشَّقاءَ في مَتاهاتِ بُعادي..
كَمْ عَجَنتُكِ، والطَّحينُ صَبابَتي، خُبزاً
يَحِنُّ إلَيْهِ زادي..
ثُمَّ سَكَبْتُكِ في فَمي أُنشودَةً
مشهورةَ التَّلحينِ والإنشادِ
جَمَّعْتُ أَمْجادَ الخَليقَةِ كُلَّها
فَتَبَعْثَرَتْ مِن ريحِ أمْجادي
وَزَرَعْتُكِ ، مثلَ النُّجومِ ، عَلَى يَدي
كَيْ يَهتَدِيْ بِشُعاعِكِ أَوْلادي.
   وقبل ان يتناول النقّاد هذه القصيدة الجديدة، أود ان انقل اليهم والى القراء الكرام، رأياً في الشعر اجدى وأثمن علّ الذين لا يعجبهم العجب يتعظون في غمزة الى النقاد اطلقها نزار قباني، والقباني مدرسة شعرية معاصرة استقطبت ملايين المعجبين، قال:
"حرام ان نمزّق القصيدة لنحصي "كمية" المعاني التي ننضم عليهان ونحصر عدد تفاعيلها، وخفي زحافاتها، ونقف على "لون" بحرها، فالاحصاء والحساب والتحليل والفكر المنطقي يجب ان تتوارى كلها ساعة التلقين المبدع، لأن كل هذه الملكات العقلانية الحاسبة فاشلة في ميدان الروح".
   أبدعت يا شربل.. ساعة حملت وطنك في قلبك في (وريقات من دفتر الغربة)، كما في (كيف أينعت السنابل؟)، محاولاً ان تجعل القلب سوراً للوطن يدفع عنه النوائب بعد ان سقطت من حوله أسواره الوطنية والعربية تاركة اياه في مهب رياح الزمان. وحبذا لو جعل كل عربي قلبه سوراً لوطنه كما فعلت انت لكان الوطن تغلب على محنته، وخرج منها مرفوع الرأس، منيع الجانب، قوي الساعد على اعدائه في الداخل والخارج.
صوت المغترب ت العدد 851، 19 أيلول 1985
**