نفحات دامعة من قصيدة (لبيك قدساه) لشربل بعيني/ محمد زهير الباشا

أديب سوري
مؤلف كتاب: شربل بعيني ملاّح يبحث عن الله
ستبقى بلسماً مراً رغم وعورة الطريق.
أتحنو عليك قلوب الورى
إذا دمع عينيك يوماً جرى؟
**
يا شاعر الأحرار..
الشعب ما قتلوه
لكنهم صلبوه
وعلى مذابح الحرية نحروه
داسوه
أسروه
شردوه
وفي بنوك التبريد
حفظوا دمه ليوم غير بعيد
وساحاتهم شهدت أنهم سحلوه وأخرسوه
والجلادون وحدهم استأجروه..
**
يا مدينة الرب
لك الفؤاد والحب
فالكل جبان
مختبىء وراء الجدران
فالقتال بمن حضر
والفوز لمن زمجر وأرعد..
**
لم يصرخ أحد.. فقد كمموا الأفواه
وفي البرية موسم حصاد
للمثل والقيم والشمائل
ينخرها الفساد بعد الفساد
أنقذنا يا رب العباد
من ظلم أبنائك السماسرة الكبار..
**
كل الضفادع لم تفتح بلداً في هذي البلاد.. نحروا عجباً..
المعتصم بالله تسلل من بغداد هرباً
بغداد حاضرة الدنيا..
وبانية أمجاد في زمن غيلان والحلاج وأبو العتاهية ومسكويه..
وبنى المعتصم سامراء
محتمياً، مختبئاً، وجيشه يحتاج الى ترجمان
من علوج وعجم وطغيانستان..
بطشه وأد العربان..
في بلاد العرب أوطاني من سامراء الى البتراء
ومن شط العرب الى صنعاء
خدعوا التراث بأنه انقذ امرأة وطفلها..
بدعة مؤلف، وبهتان محلل، ودجل خبير
وعساكره ما تركوا صبياً ولا وردة ولا أمرداً ولا شرنقة
فالكل دون تمييز أجير وعبد مستجير..
والجوع يفتك بالارامل واليتامى..
وهربت خيول عنترة والمتنبي
وتحكمت شهرزاد بالقلاع والعباد
وجحافل الخرساني تتمرغ على أجساد الأمراء
في مزرعة اسمها شام شريف.. يا أوغاد
**
من سلم القدس بعدك يا صلاح..
أبالمفاوضات؟: نعم
أبطاولات الحوار؟: نعم
أبحضور الشيطان الأكبر؟: ألف نعم ونعم
والخراف الضالة ترتع وتسرح
والعيون مطفأة والجفون تتقرّح
ما نفع الصراخ والعويل
في عصر التهويل.. والتدجين
والرماح اعتادت.. وعوّدوها على أنغام التزمير
ورقصات التطبيل
وانتصر الزيف على السيف بالرعاية والعناية
وفي غرف الدروايش.. سبحانك أللهم!
يا منقذ العباد.. وأنت المراد
**
من بعدك: وا أيوباه
سلموا مفاتيح مدينة الرب
من أجل لمحة من شفة..
فلماذا الحرب ونحن دعاة سلام
والاستسلام كذب وبهتان
والحياة سجال..
والأصفر الرنان
على جبين الدهر مضمّخ بالخذلان
فيا غدر الزمان
كانت شمساً منيرة سوداء
**
انتحار ذاتي للنخوة يا وطني
وكنت الضحية
هم جنودك الأشاوس
باسمك أذلوا
وعلى رسمك الأجوف أطلوا
وأداروا حرب داحس والغبراء
والنشامى دفنوا في حفرة الجبناء.. يا للهول!
فزعيق العصافير والجنادب
حلقة مفرغة من رحيق الحرية
متخمة بما استلهم من بدائع برلين الشرقية
لا يخشى الغربان ولا فرقعات النعيق
ومهرجان الانتصار على شعب مغلوب على أمره
ينام على أمل الصحوة
ويسهر على تلفاز السهوة
فلا مجيب
فالدرب صعب مخيف
لم يطرح بعد الوساوس
ولم يقهر غرف الدسائس
وأنشد لا بأس مع الحياة.
**
لن يكون ولن يعود صلاح.. أو شبه صلاح
أو رمزه، أو ظله، أو صوته
نحن أوهى من خيوط العنكبوت
من المحيط الهادر إلى سوليدير بيروت
السيوف سحبت من أغمادها
ونسجت معادنها من ذهب وفضة
وبيارق مشرعة تعلق في زوايا القصور
نياشين وأوسمة على نبض الصدور
وليلاً تنام القبيلة مطمئنة لطلاب السلطة
وتستمر القبضة دهورا مع دهور.
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الاحياء
**
قصيدتك يا شاعر الأحرار حرّكت فيّ المواجع
ومتى هدأت المواجع؟
ففي كل يوم فواجع
وفي الصدر دموع وآهات ملء الحناجر.. وزفرات
والصب تفضحه جفونه
وسوى الروم خلفك روم
فعلى أي جانبيك تميل
عدو اليوم والأمس والغد
وراءه ووسطه أعداء
وفي صفوفنا منه إخوة وأشقاء وأصدقاء
فلتحرق غزة ولتدمر لبنان
فالاثم واحد بعد الهزيمة
فالهزيمة انتصار
والقتل إبادة واندحار
فما هزمتنا سوى الترهات والأباطيل
منذ أصحاب الفيل
وتكفينا الأنفاق
فقد ارتعدت رموز النفاق
وعش وحيداً يا وطني
فالمواطن اليوم يفضّل أن يكون مصمم أزياء
من أن يكون محصوراً بغمر ماء
في حمام ولا أحلى
فهندسة القصيدة لا تطعم لقمة
وقد تلد على صاحبها نقمة إثر نقمة
متى يبيع الشاعر نتاجه في سوق السقائين.
**
يا شربل بعيني..
يا شاعر الأحرار
رددنا على حسن نية
يا أهلا بالمعارك
وهنيئاً لمن يشارك
وجاء النصر إلهاماً ووحياً وسنداً
وتشوهت حلقات التاريخ
وبات الحاضر منبوذاً
والماضي حاقداً
والغد ـ ويل لنا منه ـ مسموماً بعقل الأعاجيب
وعلى الله يتوكّل الدجالون
المسبحون بحمده حين استجابوا:
وقال أصيحابي الفرار أو الردى
فقلت هما أمران أحلاهما مرّ
وللشعب اختياره وحريّة مواقفه
فكان الردى والتهلكة لأفراده
وللمدافعين عن حرق الوطن: الفرار
حتى لا يحقق العدو أهدافه
ما لي أكتم حباً قد برى جسدي
وتدعي حب سيف الدولة الأمم
والله ليس غافلاً عما يفعل الظالمون
**
يا شقيق الروح.. يا شاعر الأحرار
التفاهمات في السلة والسلة لا قعر لها ولا حبال ترفعها
المصالحات هي العليا وهي العلة
لا تدري منها الكثرة ولا القلة
والسبب واضح: هذه أو تلك الكتلة
والحوارات في مناورات بمعالجات هادئة
وأجواء المصالحة تذلل العقبات
وقد تم توظيف الايجابيات بتحصين الجبهة الداخلية
لا تقل عين الرمانة
فالقلوب ملآنة
وهم أصحاب الفطنة
وضد إذكاء الفتنة
والاتفاق بالحبر بدعة
وبالالوان خدعة
إن المواقف نصر بلا هزيمة
منسوجة على الجباه
هل أدرك الأحرار هذه المقولات
أنا لم أدرك شيئاً مما ورد في سلة التفاهمات والتجاذبات
وهنيئاً لمن استغبى.
**
يا شاعر الأحرار
البخور ثم البخور..
أجواء ساحرة من الفطور الى السحور
بأجنحته المواتية وأثمانه الواقية
وبها وحدها نستطيع شراء بقعة مقدسة
في أوغندا أو في تخوم الأمازون
ويستمر الهواء المصفى الملون
يسعف أصحاب القصور
من لوثة في الصدور
ومن حسن حظ هذا الشعب
أنه فقد احساسا بالشم
فما كل ما يعمله وينسجه
ويقتات به ويرتديه أصحاب القصور
لا يعلن عنه إلا في باريس ولندن وروما ولوس أنجلوس
فموازين القوى مصطلح ينفذه هؤلاء حرصاً على التراث.
**
وا أيوباه.. ويا صلاحاه
نم قرير العين، لو صحوت لرأيت ثم رأيت
قبائل متناثرة
وأسراً متناحرة
وإيديولوجيات ماكرة
ومواقف ساحرة
فلمعت الأقوال
وغابت عنا الأفعال.
الحدود ضريبة مستدامة
الاستقواء على العامة
تزوير وغش ورشاوى
سلاحهم يباع مع السماسرة في سوق النخاسة
الأمة في غيبوبة.. وإلا اتهموا فلانا بالهرطقة
وفلانا بالزندقة
ليبقى السلم الأهلي استفزازاً لمن لم يداهن ويداجن
وهبط ليل الاستسلام هازئا بالحاضر والمصير
وفي غفلة من هذا الزمن
وضعت عقول المفكرين في أنبوبة اختبار
فكيف أجروء على أن أدعو صلاحاً من مثواه
وبجواره عماد الزنكي وياسين الهاشمي وعبد الرحمن الشهيد
فصبراً آل ياسر.. صبراً فما نيل الخلود بمستطاع
وكانت على مر العصور الكذبة البضاء
بأن طارق بن زياد ألقى خطبته العصماء
ولا يعرف من العربية سوى سجود السهو
وادعوا احراق السفن مفخرة مع الزهو
وأنا لا أعرف من المعارك سوى الزحف المقدس!
.. وتبقى قصيدتك بنفحاتها المؤرقة
أملاً في كلماتك المحلقة
مركزة على أن أمن الدولة من أمن الشعب
والعكس غير صحيح في سجل التكافل والمثلثات اليعربية
التائهة في بيداء وتصحر وتيه
مهيأة رموز انتصار للأجيال القادمة.. وربنا يستر..
**
  يوبيل شربل بعيني الفضّي
 أخي شربل بعيني
   بعد التحية.
   لعلك تستأذن لي بكلمة متواضعة أسهم بها في الهرجان الأدبي، بمناسبة اليوبيل الفضّي، لبداية شعرك منذ خمسة وعشرين عاماً.
   إذا نالت الموافقة فأهلاً.. وإن كثر الخطّاب، فأخجل، وأنصت إلى الحضور بقلبي، ولو كنت على شاطىء الأطلسي.
   فإلى الإخوة الحضور، والإخوة المتحدثين: لما كانت الدعوة مجانية أسرعت إليكم، مرحباً بكم، وها أنذا أخطو بينكم، وأصغي إلى كلماتكم، وأسجل همساتكم بقلبي، وأحيي كل كلمة تجلّى فيها حلو الحديث، وإن لم يرد إسمي في زاوية من زوايا بطاقة الدعوة. ومن طبعي أنني لا أحب المزاحمة على شواطىء هاييتي أو الصومال، فليأذن لي سعادة سفير لبنان الدكتور لطيف أبو الحسن بدقائق أمتلك فيها حريّة القول والجهر به.
   فتحيّتي إليكم، عقب هذه الموافقة التي ألمسها في مسامع الحضور، تحية غمسها الشاعر شربل بعيني بذكريات الأحبّة، وهو الأدرى، بأن المتنبي ما خلّد سيف الدولة بالمدائح فحسب، بل خلّده بهذا الحب بين الشاعر الفارسي والأمير، أشجع بني حمدان، فكان هذا الحب مدعاة لتاريخ لا يفنى.
   ومع تجوال الشاعر شربل بين جدائل الحسناوات الملهمات، الصابرات على شهامة العاشق، كانت "هي" خمرته، التي أسكرته وما أخجلته، و"هي" نبرته، التي أنطقته في عيدها، و"هي" في غمزاتها التي ما هدأت على رموش قصائده ومواعيده، ربيع يسجل القبل الهاربة.
   وحده الشاعر، طبق بعفوية: الأرض مقابل السلام، وكان له: الحب مقابل الشعر. إجتمع بالملهمة خلسة، دون أي تدخّل من وزير، وقرر معها المبادىء الأولى، فاحتكم إلى كل ضمير، وطبع قراراته اتفاقاً، في ليلة، في سمر، في رقصة، في انتهاز لمبادىء الحب، فكان للشاعر أقصر طاولة جمعت عاشقين، وحقق، منذ عشرين وخمسة من الأعوام أصعب القرارات. إنسحب من لقاء الجسد، ثم عاد وما تراخى عن أي لقاء، ثم إلى الروح، بالموافقة الاجتماعية بين شفاه أربع، وكرر ما قاله المتنبي:
وعذلت أهل العشق حتى ذقته
فعجبت كيف يموت من لا يعشقُ
   لكن الشاعر شربل بعيني فتّت الأزهار على جمرات النبض، وتمحص الأمر البنك الدولي بغية التدخل وفرض شروط الآخرين، وما عرف أن العشق حرية، وان مشروعات الحب لا تقبل أي تدخل من أي نظام عالمي. الحب لا يرضى بالتضليل ولا بالتزلّف. إنه الحب، وليس صاروخاً عابراً للبنوك والثروات. الحب يحارب بلا مهادنة، يستبد دون دماء، يصغي لكل موقف على أنوار الشموع، يقتني ولا يرهب السياط والجوع.
   وها هوذا صوت الشاعر شربل بعيني ينادي بسقوط الباستيل، فترتفع في شوارع مدينة النور أغنيات الحبّ، وتلتهب الأنفاس، فتحنو على الصدور آهات المعذّبين، خاصةً وهو الذي قطف من رؤوس المجانين موسماً، رصّع به خزانته، التي أثـمرت الريف، وأينعت أوراق السنابل.
   وبإباء السيف المرهف، رفض أن ينصب خيمة لاجىء، ولمّا احتجّ عمر الخيّام على ازدحام الجائعين، ضاعت منه شعرة من ذقن أبي نؤاس، فطالت غربة النفس.
   ولجأ الشاعر إلى كلّ ريف، ومعه قطرات من زيت مقدّس يشفي به الهائمين نحو الحريّة والحبّ، ليبعد عنهم الإغتصاب لكل جسد، والإستلاب لكل ثروة.. وظلّ الوطن دمعة وأملاً.
   لكن الشاعر تسامى، بعد أن قبض على قطرات الزيت، وناجى عليّاً، كرّم اللـه وجهه.. ونحن ما زلنا نستنير بالشعر، وإن قتلتنا في الوطن مجازر الشعارات.
   ولنتوجّه الى قلوب الشعراء وهم ينهلون مع الشاعر، ومع الحضور الكرام، كأسَ هذا المهرجان، كي تبقى لكل عاشق ملهمته، منسوجة ضفائرها على صفحات دواوينهم.
قبلاتي لكم دون عنصرية.. والى اللقاء.
فرجينيا، الولايات المتحدة الاميركية، 1993
**
كلمات سريعة عن شربل بعيني
الأخ الأعز الدكتور علي بزّي المحترم
تلقيت كتابكم القيّم ـ هدية كريمة ـ "كلمات سريعة عن شربل بعيني" وإني لأشكر لك هذه اللمسات الفنيّة التي جمعت وردة يانعة من كل حدائق أخينا شربل، وهي الملأى فناً وحباً وحدة وشاعرية، وما أغزرها من حدائق منمقة مزدهرة، تواقة إلى الحرية والعدالة وحب الخير، فاقتحم أغوار المتطفلين والمأجورين والمرتزقة والمشعوذين على أرصفة الظالمين، ثائراً على الأصنام الطائفية والتبعات القبلية، وأوهام السحرة وبساط الريح.
ليهنأ الأخ شربلبصداقتك ومودتك ووفائك، كحرصنا على شاعر الأحرار، وسيعود إلى محراب الكلمة، وقد صار النبيذ خلاً وفسد الملح. فشربل رجل عزيمة، كما عرفته، ليعيد إلينا فرحة الينابيع، وليمحو الأسى والأقوال التافهة، فالحب بات يباع في سوق النخاسة، ولا يفوز بالدرجة المثلى إلا شعره لأنه يرنو إلى عليين، ولا يخشى لومة اللائمين.

ومن ميزات شاعر الأحرار إخلاصه والثمن الذي يدفعه، ووفاؤه، والعهد الذي لا يغيب عنه، وأمانة الكلمة شرف لا يرقى إليه أي شاعر، إلا إذا اعتنق الحرية في معبد الكلمة، فلشاعر الأحرار ألف سلام وسلام.
الولايات المتحدة الاميركية، 9/3/2011
**
أعلام معاصرون في أدب الهجر: شربل بعيني
غادر قريته "مجدليا" في شرقي طرابلس ـ لبنان، وهو شاب لم يتجاوز العشرين من عمره، وتوجّه الى بيروت في إحدى الليالي الباردة من شهر كانون الأول 1971.
كانت الحقيبة في يده يزعجه ثقلها، وفي يده الأخرى تأبط علبة بيضاء ضمّت حذاء جديداً.. ومرت لحظات امتزج فيها الفرح والخوف والخلاص، دون أن ينسى ذلك الخوري وهو يطرق باب بيته ليلاً، ويهمس في أذن أمه: "سيرمون ابنك شربل في البئر، وعليه أن يغلق فمه، فلا يتفوّه بما يزعج الآخرين".
وعرف شربل انه سوف يدفع ثمن تحركات لسانه، فكيف يخرس؟ فكانت له الغربة ملاذاً وملجأ، ولمعة في حلم، واستغنى عن مشاريعه دفعة واحدة، وألغى من طموحاته الحصول على شهادة الحقوق، وكان يتمنى أن يرتدي ثوب المحاماة دفاعاً عن الضعفاء، ويبقى له قول الشعر دفاعاً عن المظلومين، فالعدالة في لبنان لم تخففها قبلات امه في وداعه، ولم ينسَ كلمتها: "لا فائدة يا بني.. من سفرك، فأنت ستهاجم زعماء لبنان في مهجرك.. سيرمونك.. ولن يعثر عليك أحد. في لبنان يا بني لا شيء له قيمة، لا شيء له قيمة، سيرمونك في البئر.. فأنت لم تحصل على وظيفة معلم.. فاهرب بجلدك".
وادعى انه ماهر في خياطة الألبسة، وانه على استعداد ليصرف ثروته التي سيحصل عليها في أستراليا. وتخلّى عن حذائه القديم، ولبس بسرعة حذاءه الجديد أمام موظف الهجرة الاسترالي في بيروت، وانتابه الخوف من جديد وهو في الطائرة مدة ثلاثين ساعة بين الجو والارض، هارباً من تهديد المتسلطين على حياة الضعفاء.
وفي أستراليا، لم يشأ أن يؤيد فئة أو يكتب لفئة، فالانسان في عرفه لا تفتته قيمة إلا حين يخسر نفسه وروحه وقد خسر العالم كله.
لكنه على جمرات الغربة صبر ونأى عن التدخل فيما يذهب أيامه هدراً.. فتوالى نتاجه الأدبي وهو يدفع من جيبه حتى يطبع قصائده على الآلة الكاتبة، ثم يصوّرها، إذ لا مطبعة عربية في سيدني، فهو المؤلف والمشرف على الطباعة وهو الموزع والبائع.. حتى ألف العرب المغتربون اسم هذا الشاعر: شربل بعيني.
ولما التقى بالاديبة السورية الدكتورة سمر العطار أعاد اليها الضحك والامل حسب اعترافها في مقدمة ديوانه " كيف اينعت السنابل؟"، وقد تعجبت منه، وأحبت براءته الطفولية إذ كان يثرثر بخفة وطلاقة عن أولئك الذين أطلقوا الرصاص حوله في طرابلس ـ لبنان، وعن أولئك الذين أرسلوا الخوري لأمه، وكان تعليقها: "كنت أرى أشباحهم السوداء، وكأنهم خارجون من توّهم للجحيم، ويراهم الشاعر دمى ملونة في مسرح العرائس، أو خيالات مضحكة.. لكن رؤيتنا للاشياء كانت تختلف اختلافاً جذرياً، كنت أرى العالم جحيماً لا يطاق، بينما كان هو يرى العالم مكاناً مشرقاً يمكن أن يعيش فيه الاطفال. وعندما ودعته وأغلقت الباب، أحسست بأن شربل قد منحني بصيصاً من الأمل".
الغربة عبء ملموس ومشاعر مأساوية.. والكلمة عن الغربة عبء ورسالة يومية تذكر المهاجر بالجوع الذي أمات اللهفة في أعين الصبايا، وكأنها زوابع على أرض المهجر لا يراها سوى ـ المغترب ـ وقد أيقن انها لا تمسح دموع الحزانى، رغم انها تدفعه الى القول، فلا الصمت المعذب يرضيه وهو يقرأ العبرات في النفوس الهائمة عن أرض الوطن، عن قممه وسفوحه، عن قراه وشطآنه.
وتتوغل آلام البعاد وكأنها البحر المتحفّز في مجابهة النفس الشاعرة التواقة الى الصدق، صدق المشاعر في دنيا لا تتوقّف امام القلوب الفارغة، فاكتظت الافئدة بكل اللمعان إلا لمعة الصدق.
شربل بعيني.. قيد الضياع أحاسيسه، وتحمل أعتى وأقسى الظروف دون أن يخشى هدير الطواحين التي تدار بدماء الأبرياء. وقد خسرت بيروت بهذا الهدير البحر والشمس والانسان، ورغيفاً تلاحقه أعين الاطفال، وأمام مدامعه كان رجلاً غضوباً، للحق، للعدالة، للانسانية، وامام صبره كان مسرفاً بحب القيم الانسانية، ومثلها العليا، وأمام هذه الغربة، كان رمزاً لكبرياء الذات، الذات الهائمة بالانطلاق، هذه الذات أوصلته الى وجدان الصدفة التي تمثل الحب والصبر وصوتاً من ايقاع، ففيها نزاهة الموقف، والكشف عن ترهات الحقد والكيد والتزمت، وهو يقرأ ما قاله الشاعر اليوناني بتروس سوناس:
جمعت كل الصبر من صواني الشحاذين،
وربطته في منديلك..
جلست مراراً على عتبة الريح ليالي طويلة،
دون نجم يملأ راحتك
فماذا الذي ترقبه بعد؟
خذ صواني الشحاذين الفارغة واجعلها دفاً صغيراً..
واصنع أغنية للغد .. وكل غد..
ولكل دف غد..
ثم احكم يدك الفارغة.
ةتعلم الشاعر شربل بعيني ان الصبر ليس حزناً ولا قهراً.. فمنحته هذه المواقف آفاقاً جديدة، وابعد عن نفسه ضغوطاً من ذكريات أليمة، وتطلع الى الكلمة الشعرية يبني من تفاعلاتها شعراً فصيحاً بلغة سليمة طيعة، ويستلهم من ربى لبنان زجلاً اخضر اشتهر به "ميشال طراد"، "وايليا ابو شديد"، و"غنطوس الراسي"، وسواهم. ففي لبنان أصدر الشاعر ديوانين: الأول منهما كان يمثل فترة العبث والطيش، أسماه "مراهقة" وكان ذلك عام 1968، اتبعه الديوان الثاني "قصائد مبعثرة".
وفي سيدني، تتابعت اصدارات الشاعر منذ عام 1976، فارتبطت بعض دواوينه الكثيرة بهذه العناوين مع تاريخ طباعتها:
1ـ مجانين 1976
2ـ قصائد ريفية 1980
3ـ رباعيات 1983
4ـ الغربة الطويلة 1985
5ـ كيف أينعت السنابل؟ 1987
6ـ الله ونقطة زيت 1988
وبقراءة سريعة بين دفتي ديوانه "كيف اينعت السنابل؟" نسمع صرخات الشاعر وكأنها الجرح الخطير والنزيف في ظلمة الليالي، وهو يخاطب السادة المحققين، فمن قصيدته "اسمعوني جيداً" نتلمس كيف سارت نبضات الشاعر وراء الأمل، وهي الأمل:
اسمعوني جيداً يا سادتي المحققين
بعت أشعاري.. ولكن
صارت الاشعار خبزاً
صارت الاشعار صوتاً
صارت الاشعار ضوءاً
في حياة البائسين
اسمعوني جيداً يا سادتي المحققين
يا من ذبحتم "ابنكم"
من أجل دولار لعين
واعتقلتم دردشات الناس
ضحْكات الصغار الآمنين الطيبين
يا من سحقتم بالنعال راية الحق المبين.
الأمة، العدد 11، 9/1/1989
صدى لبنان، العدد 636، 7/3/1989
**