د. تريزا حرب في برنامج عن شربل بعيني



**
يا شاعر الغربة الطويلة
إليك أقدّم هذه السهرة التي قضيتها مع ذكرياتي من خلال كتاب "الغربة الطويلة":
على بسمة ضوء القمر، وغمزة عين النجمة، وسحر موسيقى الفلك، جلست والوحدة تنهش كياني، ماذا أفعل؟ أنا حائرة.
وفي هدأة الليل والدنيا سكون لجأت الى صديقي الوحيد في خلوتي، الى الكتاب.. تصفّحت عدة كتب، وقرأت عدة صفحات، زادتني علماً وفهماً، ووسعت آفاقي في عالم الفلسفة والماورائيات وعالم الفضاء، حتى أثقلت كاهلي وفرة المعلومات، لكن شبح الوحدة كان كابوسي الذي يتراقص أمامي، ويقف حاجزاً بين جفنيّ والنعاس. يا إلهي.. لماذا أنا هكذا؟
إنها الغربة.. فتباً لأحكام القدر، جعلتني أعزف الالم على أوتار قيثارة قلبي الحزين.
ولجأت الى الصلاة علها تزيح كابوس الهم عن كاهلي، ففي حالات ضعفي أستمد القوّة من إيماني المطلق بالله وبأحكامه. ومع عتمة الليل سمعت صوتاً يهمس في أذني "تعالوا إلىّ يها المتعبون وأنا أريحكم"، وفجأة هدأت ثورة القلق في أعماق نفسي، وتصالحت مع ذاتي، وعادت الابتسامة ترسم نفسها على ثغري، وعدت أصول وأجول لكن ضمن جدران غرفتي، واستهديت أخيراُ الى حلّ إذ حطّ نظري على كتاب "الغربة الطويلة" لشربل بعيني، وقررت أن أقضي سهرتي مع هذا الكتاب، وصرخت محتدة مرددة مع أبي النواس: "وداوني بالتي كانت هي الداء".
وتصفحت الكتاب، وجاءني السؤال من هو شربل بعيني؟ وقرأت ما قالوا في شربل بعيني: انه سيف الأدب الهجري، وشاعر المهجر الأول.
استرسلت في القراءة واستوقفتني:
يَا غُرْبِةِ الأَيَّام الطَّوِيلِه
حْكِيلُنْ عَ اللِّي صَارْ
مَعْ دَمْعَات الْعِينَيْنْ الْخَجُولِه
اللِّي تْجَمَّدِتْ عَ خْدُود الطُّفُولِه
وْمَا غَسَّلِتْ آثَار بْعَادُنْ!!
وتراقص بيت طفولتي أمام عينيّ، أمي الحنون تمدّني بالبركات والرضى والعون. أخي يندّني بالقوة، يحميني من غدرات الزمن. أختي ترشدني وتشجعني قائلة: الحياة الكريمة وقف على الشجعان.. هيّا اسنمري، انت جديرة بحياة أفضل، بمستوى ثقافي أعلى. وتابعت القراءة:
وِبْيُوتْنَا اللِّي فِيهَا تْرِبَّيْنَا
وْعِمَّرْنَا مْدَامِيكَا بْإِيدَيْنَا
وِغْزَلْنَا سَاحَاتَا بْإِجْرَيْنَا
نَكْرِتْنَا!!
وهنا صبّيت جام غضبي عليك أيها الشاعر شربل بعيني، لأن الفكرة كانت أقوى من أملي، وصرخت لا، لن أدع:
الأُم اللِّي بِكْيِت علَيْنَا
وْخِبَّيْنَا صُوَرْهَا بْعِينَيْنَا
تنساني.. فأنا أقوم بدور رسولي في غربتي، وسأعود الى لبنان حتماً. أنا أتحداك يا شاعر الغربة الطويلة.. سوف لن تنساني أرضي.
وتابعت مسيرتي مع "الغربة الطويلة" واسترسلت بأحلامي مع جمال هذه الصورة:
يللاّ سوا نتعمشق بكمشة رياح
ونرجع على لبنان ع أرض الشمم
وحملتني هذه الصورة الى فيروز، سفيرتنا الى النجوم: "سنرجع يوماً، خبّرني العندليب"، وأغدقت على شربل بعيني لقباً جديداً "شاعر الحنين"، كيف لا وهو:
معوّد ع شرب نبيد أحلى خدود
معوّد أنا صيّف بأعلى جرود
فيها الكرز محمرّ
والعنب مشقرّ
ومنّو لحالو بيستوي العنقود
وهو الشاعرالـ:
هِرْبَانْ مِنْ تِهْجِيرْ
بِـ قُوّة الْمَدْفَعْ
مْنِ سْيَاسْة حْزَازِيرْ
مِنْ ظُلم أَوْسَعْ
مِنْ تِمّ بَحْر كْبِيرْ
أَطْفَالْ عَمْ يِبْلَعْ!!
وقدّرت موقف "شاعر الحنين" وبدأت أردد معه:
صَعْبِه اللِّي دَاق الْغَدرْ
بِالْحَقّ يِتْأَمَّلْ
وْيِحْلَمْ بِـ فَرْشِةْ زَهرْ
عَ بْسَاطْ مِن مُخْمَلْ!!
وتذكرت عند ذلك، كيف كنت أعيش بلبنان:
كِيفْ كِنَّا نْسَابِق الأَحْلامْ
وْعَ مْلُوك الْكَوْنْ نِتْكَبَّرْ
وتأملت طويلاً الأيام الماضية، وتذكرت معه عندما:
حوَّشْتْ نَارْ وْنُورْ مِنْ عُمْرِي
وْوِزَّعتْ بَاقاتْ الزَّهر عَ النَّاسْ
النَّاسْ خَانُوا وْيَبَّسُوا زَهْرِي
هَالْـ كنتْ حَاسِب صَعب إِنُّو يْبَاسْ
تَارِي اللِّي عاش الْغدرْ
بْيِدْبَحْ بـِ ضِفْرُو.. الزَّهرْ!!
وتابعت القراءة.. وابتدأ الحبيب يعزف لي أنشودة الحنين، ويعدني بأنه سيغني لي وحدي:
وْكِنتْ عَ بَابِكْ وْقِفت سْنِينْ
حامِلْ كَمَنْجَه وْبَاقِة رْيَاحِينْ
تَا كِيفْ مَا تْرُوحِي وْتِجِي عَ الدَّرْبْ
غَنِّي لْعُيُونِكْ أَجْمَل تْلاحِينْ
واستسغت الفكرة، وأخذت في صمت عميق، لأعود بعدها لمتابعة القراءة، ومررت بـ"جزمة ألله" فلم أحب هذا العنوان، ولن أعكّر صفو مزاجي، فلم أقرأ هذه القصيدة، ومررت بقصيدة "أوعا تخاف" ومطلعها:
الوحل اللي مغطّى جريي..
فلم ترق لي الفكرة أبداً، ولم أتابع قراءة القصيدة.
ووصلت الى قصيدة "صوتي مبحوح" وهنا علا صوتي بالغناء، ودخلت قلب حبيبي، وابتدأت أدوزن أوتار عوده، وأداعبه، وأحثه على العودة الى لبنان:
" يَا غْزَيِّلْ يَا بُو الْهِبَا
يَا هَاوِي يَا مْعَذِّبَا
يَلْلاَّ نِرْجَعْ عَ بْلادِي
وِنْرَجِّعْ عَهْد الصِّبَا

يَا غْزَيِّلْ قللُّو وْقللُّو:
عَلَم الأرْزِه مِنْجِلُّو
وْبَاقِيلْنَا لُبْنَانْ كِلُّو
مْنِ السَّاحِلْ حَتَّى الرُّبَى

يَا غْزَيِّلْ بِـ غُرْبِتْنَا
مَا نْسِينَاهَا لْضَيْعِتْنَا
بَشِّرْهَا بِـ رَجْعِتْنَا
قَبْل الشَّمْس الْغَارِبَه
وهنا، كم وددت لو أطير على جناح السرعة، لكن كيف هذا؟:
يَا مِينْ يْرَكِّبْلِي جْنَاحْ
وِيْطَيّرْنِي بِالْعَالِي
بَدِّي إِتْغَلَّبْ عَ رْيَاحْ
نَفْخِتْلِي بْعِينَيِّي غْبَارْ
وْرِمْيِتْنِي بْأَصْعَبْ حَالِه!!

وْيَا مِينْ يْغَنِّيلِي صَوْتْ
وِيْدِقِّلِّي مُوسِيقَى
فَالِتْ مِنْ إِيدَيْن الْمَوْتْ
وْعَمْ إِتْشَلْقَحْ تَحْت الشَّمْسْ
وْمُصّ النُّور مْنِ عْرُوقَا!!

شَامِخْ.. مَعْ إِنِّي إِنْسَانْ
مَا بْيُؤْمِنْ بِطْلُوعْ الضَّوّْ
حَارَبْت الْحُقْد بْإِيمَانْ
سْرَقْتُو مِنْ بَخُّورْ الدَّيْرْ
وِحْرَقْتُو.. وْعِطَّرْت الْجَوّْ!!
وهنا تعبت وغالبني النعاس بعد أن انتهيت من قراءة الكتاب، فأغدقت عليك يا شاعري عدة عبر، فهل تسمح ان تتقبّلها مني، وتبقيها ألقاباً مسجلة باسمي:
شربل شاعر الغربة الطويلة.
شربل شاعر الحنين.
على المهاجر أن ينتظر كثيراً من شاعر الغربة الطويلة، فهو غزير العطاء، وما يكتبه قلمه سوف يزداد مع مرور الايام، وما يكتشفه من صور سيكون أثمن ما تصبو اليه النفس التواقة الى قراءة الشعر في أستراليا، وفي كل بقاع الأرض.
يا شاعري.. 
عندما أقرأ لك، وألتقط فضلات الحصاد من دماغك المخصب، يحملني الحنين الى حنايا حبيبي، أختبىء بين ضلوعه، فيغمرني بدفئه، وأطير معه لأحطّ على قلعة بزيدا في تنورين الشامخة على غدرات الزمن، والملوّنة بالتيه.
شربل بعيني أحد رجالات هذه الانسانية الجديدة، تنبض أفكاره في مؤلفاته الجامعة بين عادات الشرق، والقلق المختمر في فطرته النفسية الغربية، فأسلوبه في الشعر هو اناء الانسانية الشفاف.
فهلموا يا ابناء جاليتي الاحباء نحتفل جميعاً بعطائه مؤتمنين المستقبل على الاحتفاظ بأجمل كتاباته مشجعين قائلين: الى الأمام يا شاعر الغربة الطويلة.
التلغراف، العدد 1459، 2/5/1986
**